علوم الحديث بين فضفضة المصطلح
وندرة التمثيل وعسر التطبيق
أ.د. أبولبابة الطاهر صالح حسين
رئيس قسم الدراسات الإسلاميّة بجامعة الإمارات
لم تعن أمّة من الأمم بميراث نبيّها وتعاليمه عناية الأمّة الإسلاميّة بميراث رسولها محمّد صلى الله عليه وسلم، فلم تدع قولا ولا فعلا ولا إقرارا ولا صفة ولا حركة ولا سكنة صدرت عنه في اليقظة أو في المنام في حال الإقامة أو الظعن في حال الأمن أو الخوف، إلا حفظت في الصدور وقيّدت في السطور، ثم ما لبثت أن دوّنت في دواوين كبيرة،فتهيّأت للتصنيف والتبويب والترتيب والدراسة والنقد والتمحيص، ونشأ عن هذه الحركة العلميّة المباركة علم فريد لم يعرف له مثيل عند الأمم الأخرى، وهو علم الحديث أو علم أصول الحديث أو علم المصطلح، ولعلّ في هذه التسمية الأخيرة دلالة واضحة على عناية أهل الحديث بعلمهم وتعاريفهم ومصطلحاتهم حتى سمّوا علمهم أو علومهم بالمصطلح.
ولئن كانت بذور هذا العلم وأصوله الكبرى مبثوثة في كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه إلا أنّ جحافل العلماء بداية من القرن الأوّل انكبّوا على دراسة السنّة وحفظها وتمحيصها، وقد رأوا في ذلك فريضة مقدّسة لا مناص من أدائها على الوجه الذي يرضي الله، فظهرت شذرات من المصطلحات والتعريفات، ونبذ من نفائس هذا العلم مبثوثة في مصنّفات القرون الأولى كمؤلّفات الإمام الشافعيّ والإمام أحمد وما تداوله تلاميذهم ومريدوهم من أسئلة وأجوبة ومحاورات، وكمقدّمة الإمام مسلم التي صدّر بها صحيحه، وكرسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكّة، وكجامع الإمام الترمذيّ وعلله وغيرها.. حتى إذا ما قطع القرن الرابع شوطا من الزمن شهد ميلاد أوّل كتاب ممحّض لهذا العلم الشريف جمع فيه ما تفرّق من تعاريف ومصطلحات، وقواعد، فكان القطر الذي يسبق انهمار الغيث النافع.
وتوالت التآليف في علوم الحديث عبر القرون، فتجلّت في تلك التآليف مواهب علماء الأمّة بما أبدعوه من فنون النقد والشرح والتوضيح لمقالات أسلافهم والاستدراك على ما فاتهم والاستخراج عليهم، في مسيرة تطويريّة دؤوبة انتهت بهذا العلم إلى أن يصفه مؤرّخو العلوم بأنّه علم نضج واحترق إشارة إلى ما بلغه من كمال.
وقد تأثّر بمنهج المحدّثين في تحرير قواعد قبول الروايات وضبط أصول الإثبات التاريخيّ، علماء أكثر الفنون النقليّة كعلماء التاريخ واللغة والأدب..فقلّدوهم في الاجتهاد والتثبّت وتطبيق قواعدهم للتوثّق من صحّة منقولاتهم، حتى أصبح علم الحديث على ملحظ الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ »أساسا لكلّ العلوم النقليّة«، بل هو على حدّ تعبير الشيخ محمد عبدالرازق حمزة »منطق المنقول وميزان تصحيح الأخبار«. وأضحى لا يختلف حول أهمّيّته وجليل نفعه إثنان من أهل هذا الشأن.
وإذا كان هذا شأن هذا العلم الشريف من الرفعة والدقّة والشمول فماذا عسانا أن نضيف في ندوتنا هذه؟
إنّ علوم الحديث قامت على عنصرين كبيرين وهامّين:
الأوّل منهما: هو التعاريف والحدود لأنواع هذه العلوم التي رصد منها أبو عبدالله الحاكم النيسابوري في القرن الرابع إثنين وخمسين نوعا، لتصل على يدي الإمام السيوطي في القرن العاشر إلى ثلاثة وتسعين نوعا، وقد استخدمت في بنائها وضبطها مصطلحات ذات دلالات معيّنة واختيرت لها أمثلة تطبيقيّة تدعم تلك الحدود والتصوّرات.
والثاني: هو قواعد النقد والتمحيص للتحقّق من ثقة الراوي وصحّة الرواية وصلوحيّتها للاحتجاج بها، ومن ثبوت النصوص التاريخيّة وصولا إلى معرفة الحقيقة وحلّ الغوامض.
وإنّ ما سنسلّط عليه الضوء في هذه الورقة المتواضعة هو القسم الأوّل أي التعريفات والمصطلحات وما حشد لها من أمثلة فنلامس ما في بعضها من فضفضة أو قصور أو إطلاق ممّا جعلها لا تنضبط مع الشرط الذهبيّ الذي وضعه الأصوليّون لسلامة الحدّ وصحّته وهو »أن يكون جامعا مانعا«، كما نقف على بعض الأمثلة غير المتطابقة مع النظرية، أو ما تعاني منه بعض أنواع علوم الحديث من شحّ التمثيل وعسر تطبيق المثال على الحدّ أو القاعدة. أمّا القسم الثاني وهو أصول نقد الروايات وتمحيص النصوص وقواعد جرح الرجال وتعديلهم فهذا قد بلغ من الدّقّة والفاعلية شأوا يتعذّر معه على الناقد المنصف الموضوعيّ أن يعثر فيه على ثغرة يتسلّل منها للنقد أو الغضّ من جدواه وأهمّيّته.
وقبل خوض غمار الموضوع لا بدّ لنا من تجلية صلة التعريف أو الحدّ بالاصطلاح؟. فقد عرّف العلماء الحدّ بقولهم: »هو اللفظ الجامع المانع« أي »هو ما يتميّز به المحدود ويشتمل على جميعه، فيمنع دخول ما ليس منه إليه كما يمنع خروج أيّ شيء منه عنه«.وإذا كانت غاية الحدّ عند مناطقة اليونان وفلاسفتهم هي الوصول إلى معرفة ماهية الشيء المعرّف، حتى أنّ »أرسطو« أو أرسطاطاليس أحد أشهر فلاسفة اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد اعتبر الحدّ هو قمّة العلم، والتوصّل إلى الماهية بالحدّ هو غاية الفكر، فإنّ الأصوليين وسائر النظّار من جميع الطوائف الأشعريّة والمعتزلة وغيرهم.. ـ كما يقول ابن تيمية ـ يرون أنّ الحدّ يفيد التمييز بين المحدود وغيره.
أمّا المصطلح: فهو العبارة اللغويّة التي حمّلها فريق من العلماء في فنّ معيّن من فنون العلم دلالة خاصّة، فهي وعاء يوضع فيه مضمون من المضامين.. وأداة تحمل رسالة المعنى ـ على حدّ تعبير د. محمد عمارة حفظه الله.
ونظرا لاختلاف مدارك العلماء وتباين رؤاهم واجتهاداتهم وتصوّراتهم للموضوعات المطروقة فقد يقع بينهم شيء من التفاوت والاختلاف في تحديد معالم تلك المصطلحات، وإذا كان العلماء قد حسموا موضوع الاختلاف في التعريف والاصطلاح بقاعدتهم الشهيرة: »لا مشاحّة في الاصطلاح«، فإنّ مشكلة التوسّع في المعنى والترهّل في الدلالة بحيث يصبح المصطلح أو التعريف فضفاضا يضمّ أشتاتا من المعاني والدلالات بما فيها المتنافرة أحيانا، وكذلك التعريف أو المصطلح الذي لا نجد له مثالا أو نجد له مثالا يعسر تطبيقه على القاعدة، تبقى مشكلة تحتاج إلى الإشارة إليها والتنويه بها وبيان ما فيها من قصور حتى تتّضح معالم الطريق وحتى يصبح هذا العلم تطبيقيّا يتساوق مع واقع الأشياء وحقائقها، لا نظريّا يخدم قضايا بعيدة عن واقع المادة العلمية التي ينبغي أن تكرّس كل الجهود لخدمتها وتيسيرها للناس حتّى ينتفعوا بعطائها وخيرها، وحتّى تتعلّق به نفوس الطلبة الشابّة التوّاقة للإحاطة به والإفادة من جهود علمائه عبر تاريخه الطويل.
وهذه المشكلات العويصة إنّما يلمسها من يكابد تدريس هذه المادّة، ويسعى لتقريب مفاهيمها لطلابه وتيسيرها لهم حتى يتعلّقوا بها، فيخدموها ويستخدموها ويطبقوها في بحوثهم العلميّة.
فضفضة المصطلح وندرة التمثيل:
المراد بالفضفضة الاتّساع في تعريف المصطلح بحيث يدخل فيه ما ليس منه، أي أنّ التعريف لم يصغ بعبارات محرّرة تجمع ما هو داخل فيه وتمنع ما هو خارج عنه من الدخول فيه. وممّا يلاحظه الدارس لعلم الحديث في هذا المجال وجود جملة من المصطلحات الفضفاضة غير المحرّرة التي تحدث إرباكا في فهم المصطلح وتصوّره على وجه دقيق، ومن هذه المصطلحات مثلا:
الحســن: لقد اختلفت أنظار العلماء في تعريف الحسن باعتباره »وسطا بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر لا في نفس الأمر، فعسر التعبير عنه وضبطه على كثير من أهل هذه الصناعة، وذلك لأنّه أمر نسبيّ، شيء ينقدح عند الحافظ ربّما تقصر عبارته عنه«، هكذا علّل ابن كثير هذا الاضطراب في التعريف في كتابه اختصار علوم الحديث[1]. وقد أورد ابن الصلاح تعاريف كلّ من الترمذيّ [ ت279هـ] وأبي سليمان الخطابيّ [ت380هـ] وأبي الفرج ابن الجوزيّ [ت597هـ] وكرّ عليها كلّها بالنقد فقال: »كلّ ذلك مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذيّ والخطابيّ ما يفصل الحسن من الصحيح«[2]. كما أنّ معاصره الحافظ أبا عبدالله ابن الموّاق [ت642هـ] شعر بما في تعريف الترمذيّ من فضفضة جعلت الصحيح يدخل في الحسن فقال: »لم يخصّ الترمذيّ الحسن بصفة تميّزه عن الصحيح«[3]، لأنّ ما اشترطه في رواية الحسن من الثقة وعدم الشذوذ وعدم الاتّهام مشترط كذلك في الصحيح.واعترض كذلك ابن دقيق العيد [ت702هـ]،وابن جماعة المصريّ [ت 733هـ] على تعريف الخطّابيّ بأنّه يصدق على الصحيح أيضا لأنّ الصحيح عرف مخرجه واشتهر رجاله بالثقة.بل إنّ ابن جماعة يذكر أنّ تعريف الخطّابيّ لا يمنع الضعيف من الدخول فيه لأنّ الضعيف عرف مخرجه كذلك واشتهر رجاله بالضعف.
وحاول ابن الصلاح تعريف الحسن، فقسّمه قسمين: حسنا لذاته، وحسنا لغيره. ثمّ عرّف كلا منهما تعريفا جامعا مانعا ـ في ظنّه ـ إلا أنّ تعريفيه هذين لم يسلما من المؤاخذة، فقد اعترض على تعريف الحسن لذاته بأنه يرد عليه المرسل الذي اشتهر رجاله بما ذكره من الصدق والأمانة، كما اعترض على الحسن لغيره بأنه يرد عليه المرسل والمنقطع الذي في رجاله مستور، ويروى مثله أو نحوه من وجه آخر[4].
وبالإضافة إلى هذه الفضفضة وعدم تحرير عبارة تعريف الحسن فإنّ مثالا واحدا للحسن لذاته أو للحسن لغيره لا نعثر عليه عندهم، الأمر الذي يجعل تصوّره على عين الواقع مطلبا عزيز المنال.
وهناك من العلماء من استخدم مصطلح الحسن في غير محلّه، فهذا الحسين بن مسعود البغويّ [ت516هـ] أطلق في كتابه »مصابيح السنة« »الحسن« على ما ضمّنه كتابه من أحاديث سنن أبي داود، والنسائي، والترمذيّ، والحال أنّ أصحاب هذا الشأن مجمعون على أنّ فيها الصحيح والحسن بل والضعيف، الأمر الذي جعل ابن الصلاح يصف اصطلاح البغويّ بقوله »لا يعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك«.
وللخروج من هذه الإطلاقات وهذه الفضفضة والاختلافات، لا بدّ لنا من صياغة تعريف جامع مانع للحسن بقسميه مع استعراض أمثلة واضحة بيّنة لهما تطمئنّ لها نفوس الدارسين، لاسيّما الطلاب المبتدئين، وقد رأيت لأستاذنا الشيخ مصطفى أمين التازي ـ طيّب الله ثراه ـ تعريفا دقيقا محرّرا للصحيح بقسميه وللحسن بقسميه مع بيان الفروق بين هذه الأقسام، إلا أنّ عدم إيراده لأمثلة موضّحة كافية جعل العمليّة لا ترقى إلى درجة ما نصبو إليه من الكمال[5].
المسند: من المصطلحات الحديثيّة التي تعدّدت تعريفاته واختلفت حول تحديد ماهيته الآراء: »المسند«:
ـ فهذا أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري المشهور بابن البيّع [ت405هـ] يرى أنّ المسند هو الحديث المتّصل السند إلى رسول الله ـ أي أنّه يحصر المسند في المتّصل المرفوع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
ـ ويذهب أبوبكر أحمد الخطيب البغدادي [ت463هـ] إلى أنّ المسند عند أهل الحديث هو ما اتّصل إسناده من راويه إلى منتهاه. وبذلك يدخل في التعريف المرفوع والموقوف والمقطوع، إلا أنّه يشير إلى أنّ أكثر ما يستخدم مصطلح المسند في المتّصل المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـ أمّا أبوعمر يوسف ابن عبدالبرّ [ت463هـ] فيذهب إلى أنّ المسند هو ما رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سواء كان السند متّصلا أو منقطعا. إلا أنّه حكى عن قوم أنّ المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فحسب ما تبنّاه هؤلاء العلماء الثلاثة وحسب ما حكوه عن غيرهم يكون للمسند الدلالات التالية:
1 ـ المتّصل المرفوع . 2 ـ المنقطع المرفوع. 3 ـ المتّصل الموقوف
ورجّح ابن حجر العسقلانيّ ما ذهب إليه الحاكم، من أنّ المسند هو ما اتّصل سنده مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار لصالح الوضوح وغلق باب الاختلافات غير المجدية.
المرفـوع:رغم وضوح هذا المصطلح الدّالّ على ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان السند متّصلا أو منقطعا بما في ذلك المرسل، فإنّ الخطيب البغداديّ رحمه الله يحصر المرفوع فيما رفعه الصحابيّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرج مرسل التابعيّ[7]، ولعلّه فعل ذلك اكتفاء بما يدلّ عليه المرسل في اصطلاح المحدّثين من رفع التابعيّ كبيرا كان أو صغيرا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المقطوع: يعرّف المقطوع بأنّه ما جاء عن التابعين موقوفا عليهم من أقوالهم وأفعالهم.
إلا أنّ ابن الصلاح رصد تداخل هذا المصطلح مع المنقطع عند بعض العلماء فهو يقول: »وقد وجدت التعبير بالمقطوع عن المنقطع غير الموصول في كلام الإمام الشافعيّ، وأبي القاسم الطبرانيّ، وغيرهما«[8] كأبي بكر الحميديّ والدارقطنيّ.
ومعلوم أنّ بين المنقطع الذي هو ما سقط منه رجل أو أكثر بدون توال أو أبهم قبل الصحابيّ وبين المقطوع بون شاسع، فالتعبير عن المنقطع بالمقطوع يحدث إرباكا في المفاهيم يحسن تفاديه لأنّه يتعارض مع شرط الحدّ أو التعريف.
المنقطع: وهذا المصطلح نجد له عدّة تعريفات، تتداخل معها المفاهيم:
1 ـ فممّا عرّف به: أنّه »ما لم يتّصل إسناده على أيّ وجه كان انقطاعه، وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعيّ عن الصحابيّ«.
وعبارة »على أيّ وجه كان انقطاعه« تفتح الباب أمام المرسل والمعضل والمعلّق، كي تدخل ضمن التعريف لأنّ في جميعها انقطاعا على وجه معيّن.
2 ـ وقيل »هو ما اختلّ منه رجل قبل التابعيّ محذوفا كان أو مبهما كرجل«، وهو تعريف لا يخلو من قصور، فما المانع من إطلاق صفة »المنقطع« على سند سقط منه راو واحد هو التابعي!؟ وإذا وقعت هذه الصورة فعلا، فما المصطلح الذي نطلقه عليها؟
3 ـ وقيل: »هو ما روي عن تابعيّ أو من دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله« وهذا التعريف شعر ابن الصلاح ببعده عن الصواب فقال عنه: »وهذا غريب بعيد«، كما شعر النوويّ بغرابته وضعفه فقال: »وهذا غريب، ضعيف«[9] لأنّ الموقوف على التابعيّ إنّما هو المقطوع، أمّا ما وقف على من دونه فهو موقوف على هذا الراوي الموقوف عليه، دون أن يوصف بلقب معيّن.
المعضل:
وهذا المصطلح نالت منه الفضفضة نيلا شديدا حتى كاد يصبح مفهوماً عائماً لا تبين ملامحه الخاصّة به.
فقد عرّفه ابن الصلاح بقوله: »هو عبارة عمّا سقط من إسناده اثنان فصاعدا«[10]. وهو وصف يدخل معه فيه المنقطع لأنّ من صوره أن يسقط من وسط إسناده اثنان بدون توالٍ، كما يدخل فيه المعلّق الذي هو ما سقط من أوّل إسناده راوٍ أو اثنان أو أكثر على التوالي وقد عبّر النووي في »التقريب« عقب تعريف المعضل بما يفيد هذه الفضفضة فقال: »ويسمّى منقطعاً، و يسمّى مرسلاً عند الفقهاء«.
بل ابن الصلاح جعل المعضل يتقاطع مع المنقطع والمرسل فقال:»فكلّ معضل منقطع، وليس كلّ منقطع معضلا، وقوم يسمّونه مرسلا ً«[11] على مذهب من يسمّي كلّ ما لا يتّصل مرسلاً.
والبلاغ وهو قول الراوي بلغني يُعِدُّه أصحاب الحديث ـ على ملحظ أبي نصر السجزيّ ـ معضلاً.
و روى ابن الصلاح أنّ قول المصنّفين من الفقهاء وغيرهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ونحو ذلك، كلّه من قبيل المعضل.
بل إنّ الحاكم ذهب إلى أغرب من ذلك حيث سمّى رواية تابع عن تابع حديثاً موقوفاً عليه معضلا، باعتبار عدم ذكر الصحابيّ والرسول صلى الله عليه وسلم معاً، وقد مثّل له بحديث يرويه بسنده المتّصل إلى الحسن البصريّ: »أخذ المؤمن عن الله أدباً حسناً إذا وُسِّع عليه وَسَّع وإذا قُتِّرَ عليه قَتَّر«...وهو عند جمهور علماء الحديث »مقطوع« كما سبق بيانه.
ولتجنّب هذا الخلط لابدّ في تعريف المعضل من التأكيد على:
التوالي في سقوط الراويين أو أكثر احترازاً من المنقطع.
وتحديد موقع السقوط احترازاً من المعلّق الذي هو ما سقط من أوّل إسناده راوٍ فأكثر، ومن البلاغ الذي هو إسقاط الراوي في أوّل السند لشيخه فمن فوقه. فإذا وضعنا هذه الاحترازات مع إيراد مثال فأكثر للمعضل بمعناه الجامع المانع أصبح »المعضل« من المصطلحات الواضحة الميسورة الفهم والتطبيق.
الشاذّ:
من أوضح التعريفات للشاذ في اصطلاح المحدّثين ما عرّفه به الإمام الشافعيّ رحمه الله [ت 204هـ] فقد قال: »ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنّما الشاذّ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس«. إلا أنّه بعد قرنين من الزمن تقريبا يحدث الحاكم النيسابوريّ [ت405هـ] تعريفا جديدا للشاذّ يبعد به عن معناه المتعارف عليه وهو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ويجعله الحديث الذي ينفرد بروايته ثقة، وهذه عبارته رحمه الله: »هو الحديث الذي ينفرد به ثقة من الثقات، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة«، وبذلك يصبح الشاذّ عنده يعني التفرّد. ثمّ يأتي بعده أبو يعلى الخليل بن عبدالله الخليليّ القزوينيّ [ت446هـ] ليزيد تعريف الشاذّ غموضا فيقول: »الذي عليه حفّاظ الحديث أنّ الشاذّ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذّ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك وما كان عن ثقة يتوقّف فيه ولا يحتجّ به«، وقد شعر الشيخ ابن الصلاح بهذا التداخل في المصطلحات فأراد حسم الموقف ببيان ما هو واضح وما هو مشوب بالغموض فقال:»أمّا ما حكم الشافعيّ عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنّه شاذّ غير مقبول، وأمّا ما حكيناه عن غيره [ أي الحاكم والخليليّ] فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط، وهو الصحيح عند أهل الحديث«[12]. إلا أنّ هذا الوضوح الذي اختاره ابن الصلاح في تعريف الشاذّ لم يلبث أن نقضه في خلاصة مبحثه لنوع »الشاذّ« حيث قال: »فخرج من ذلك أنّ الشاذّ المردود قسمان:
ـ أحدهما: الحديث الفرد المخالف.
ـ والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرّد والشذوذ من النكارة والضعف«[13].
وهذه الخلاصة نلاحظ فيها من الإيهام ما يدعو إلى التوقّف:
1 ـ فعبارة »الحديث الفرد« لا توجب المخالفة، طالما أنّه حديث فرد غريب.
2 ـ وإذا سلّمنا بالمخالفة فليس كلّ متفرّد بالرواية شاذّا، فالشذوذ فقط مخالفة الثقة للأوثق، وحديث الثقة ليس ضعيفا ولكن من باب صحيح وأصحّ، كما يقول الإمام السيوطيّ[14].
3 ـ ثمّ إنّ التفرّد إذا كان من ثقة لم يخالف أحدا فهو صحيح مقبول، وإذا كان من ضعيف يكون حديثه ضعيفا، ولا علاقة له في كلا الحالين بالشذوذ.
المنكـر:
إنّ من أقدم من عرّف المنكر الحافظ أبا بكر أحمد بن هارون البرديجيّ [ت 301هـ]، فقد عرّفه بقوله: »هو الحديث الذي ينفرد به الرجل، ولا يعرف متنه من غير روايته، لا من الوجه الذي رواه منه ولا من وجه آخر«[15].
و نلاحظ في هذا التعريف إطلاقا لا يستقيم مع الدقّة المطلوبة في التعاريف: فإطلاق عبارة »الرجل« وعدم تحديد درجته من الثقة يجعل التعريف هلاميّا، ذلك أنّ:
ـ تفرّد الثقة برواية الحديث لا يقلّل من قيمته، فهو حديث صحيح.
ـ وتفرّد الضعيف به يحكم عليه بالضعف.
ـ فالعبرة في النكارة شأنها شأن الشذوذ إنّما هي في المخالفة، مع اعتبار درجة المخالف من الثقة فإذا خالف الثقة الأوثق كان شاذّا وإذا خالف الضعيف الثقة كان منكرا، وتعريف البرديجي خلا من هذا المعنى فأصبح لا يعبّر عن المراد. وهذه الهلاميّة وقع فيها الكثير من أهل الحديث حتى قال النوويّ: »وكذا أطلقه كثيرون«، وقال قبله ابن الصلاح: »وإطلاق الحكم على التفرّد بالردّ والنكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث«، ورأى في هذا رحمه الله بعدا عن الصواب فقال: »والصواب فيه التفصيل الذي تقدّم في الشاذّ«.
إلا أنّه في تفصيله خلط بين المنكر والشاذّ إذ يبدو أنّهما عنده »اسمان لمسمّى واحد«، وقد شاركه في هذا الخلط النوويّ لأنهما »سيّان«[16] عنده كذلك. فقد جعل ابن الصلاح المنكر قسمين، ومثّل للأوّل بقوله:
»ومثال الأوّل: هو المنفرد المخالف لما رواه الثقات«.وقد مثّل له بحديث ينطبق على الشاذّ لا على المنكر وهو حديث أسامة بن زيد مرفوعا: »لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم« رواه مالك عن الزهري عن عليّ بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد، وذكر أنّ كلّ من رواه من أصحاب الزهري إنّما رووه عن عمرو [بفتح العين] بن عثمان فشذّ مالك وهو ثقة مخالفا الثقات.
أمّا القسم الثاني فعرّفه بقوله: »هو الفرد الذي ليس في روايته من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرّده« ومثّل له بحديث عائشة مرفوعا: »كلوا البلح بالتمر..«[17] الذي تفرّد بروايته أبو زكيّر يحيى بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.فهذا الحديث ضعيف لضعف أبي زكيّر الذي تفرّد بروايته وليس منكرا.
وهكذا نخرج من دراسة هذا النوع من أنواع علوم الحديث وهو المنكر، دون أن نظفر بتعريف جامع مانع للمنكر ولا لمثال تطبيقيّ يصدق عليه، وهو أمر لا تخفى آثاره على أذهان طلابنا.
التابع والشاهد:
كان هذان المصطلحان قبل استقرار المصطلحات الحديثيّة في العصور المتأخّرة متداخلين لدرجة أن أطلق أحدهما على الثاني. فهذا ابن الصلاح رحمه الله بعد أن يورد مثالا على التابع يقول: »ويجوز أن يسمّى ذلك بالشاهد أيضا«[18] ويبدو أنّ الحاكم النيسابوريّ قد سبقه إلى هذا الخلط بينهما، فقد سمّى رحمه الله في المدخل إلى الصحيح »المتابعات شواهد« وسار النوويّ على خطاهما فقال في التقريب:»وتسمّى المتابعة شاهدا«[19] ، كما أنّ أبا حفص سراج الدين البلقينيّ [ت805هـ] في محاسن الاصطلاح يعلّق على قول ابن الصلاح:»قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد«، بقوله: »فائدة: لا يقال عطف الاستشهاد على المتابعة يقتضي تغايرهما«. فهو مثل سابقيه يرى أنّهما شيء واحد. وعلى نفس المنوال سار شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانيّ فقال فيما يرويه عنه السيوطيّ في التدريب: »وقد يسمّى الشاهد متابعة أيضا«.
وهذا أمر كما نرى قد يستقيم إذا نظرنا للمسألة من الناحية اللغوية، فالشاهد والتابع كلّ منهما بمعنى الموافق، أمّا إذا اعتمدنا التعريف الاصطلاحيّ ونظرنا إلى وظيفة كلّ من الشاهد والتابع فإنّ خلط القدامى بين التابع والشاهد يصبح مربكا وغير مستقيم مع المنهج العلميّ.
وقد حاول الإمام السيوطيّ التمييز بين المصطلحين إلا أنّه أوقعنا في خلط آخر لا يقلّ جسامة عن سابقه، فهو يقول: »فقد حصل اختصاص المتابعة بما كان باللفظ سواء كان من رواية ذلك الصحابيّ أم لا، والشاهد أعمّ، وقيل هو مخصوص بما كان بالمعنى كذلك«[20] .
ولا يخفى ما لهذه الفضفضة وهذا الخلط وعدم الوضوح في مسألة المتابعات والشواهد من آثار سلبيّة على عمليّة التخريج القائمة على معرفة المتابعات والشواهد للوصول إلى الحكم السديد على الحديث المراد دراسته والحكم عليه بما هو أهله، والتخريج هو إكسير العلم على حدّ تعبير شيخنا سيّد أحمد صقر طيّب الله ثراه.
وإذا علمنا أنّ وظيفة المتابعة هي جبر الضعف الخفيف المحتمل كثبوت السماع في المتابع [ اسم فاعل] بدل عنعنة الراوي المدلّس في المتابع [ اسم مفعول]،وكرواية الثقة بدل المختلط أو كثير السهو والخطأ والنسيان، وكتبيّن الوصل بدل الانقطاع أو كمعرفة الراوي بعد أن كان مبهما في المتابع [ اسم مفعول]، وغير ذلك من أنواع الجبر التي تحدثها المتابعة فترتقي بالحديث المتابع [ اسم مفعول] الضعيف إلى درجة الصحيح لغيره أو الحسن لغيره بحسب درجة التابع من القوّة.
وإذا علمنا كذلك أن وظيفة الشاهد هي دعم متن الحديث المتابع [اسم مفعول]فحسب، بأن تخرجه من دائرة الغرابة إلى مجال الشهرة أو تخرجه من دائرة الضعف إلى دائرة الصحة أو الحسن بحسب السند الذي رويت به.
إذا علمنا هذا فلا بدّ من التفريق بين المتابعة والشاهد ولا بدّ من وضع اصطلاح جامع مانع لكلّ واحد منهما على حدة يميّز أحدهما عن الثاني. ولعلّ من أجمع التعريفات وأمنعها تعريف شيخنا الشيخ مصطفى أمين التازي في كتابه »مقاصد الحديث في القديم وفي الحديث«.
فقد عرّف التابع بقوله: »أن يوافق راوي الحديث الذي كان يظنّ تفرّده به، راو آخر يصلح حديثه للاعتبار في رواية ذلك الحديث معه بلفظه أو بمعناه عن شيخه أو عمّن فوقه بحيث ينتهي إلى صحابيّ واحد«.
وعرّف الشاهد بقوله: »أن يوافق راوي الحديث الذي كان يظنّ تفرّده به راو آخر يصلح حديثه للاعتبار في رواية ذلك الحديث بلفظه أو بمعناه عن صحابيّ آخر«[21].
عبارات موهمة في الجرح والتعديل:
وممّا يجدر التنبيه إليه وجود بعض العبارات الموهمة التي أطلقها بعض العلماء للدلالة على معانٍ خاصّة بهم كعبارة »المنكر« مثلاً الذي هو ما رواه الضعيف مخالفاً ما رواه الثقة«، فإنّ الإمام أحمد يطلقها على من يُغرب على أقرانه في الحديث بأن يأتيهم بالغرائب فيقول عنه »منكر الحديث«[22] أو »له أحاديث مناكير« فهو لا يعني بذلك تضعيفه وإنّما يطلق المناكير على الأفراد التي لا متابع لها، أي الأحاديث الغريبة غير المعروفة، وكأنّه رحمه الله اعتمد المعنى اللغوي للمنكر وهو النكرة غير المعروف.
بينما الإمام البخاري حين يطلق »منكر الحديث« فإنّما يريد بذلك الراوي الذي لا تحلّ الرواية عنه[23]، فالعبارة واحدة إلا أنّ كلا منهما يستخدمها للتعبير عن معنى مختلف.
ويستخدم بعض المحدّثين نفس العبارة »منكر الحديث« أو »يروي المناكير« للتدليل على كثرة تفرّد الراوي، في حين إذا قالوا »حديث منكر« فإنّهم يقصدون أنّه حديث واهٍ، رواه ضعيف مخالفاً الثقة.
وكعبارة »ليس بشيء« فإنّ يحيى بن معين [ت 234هـ] يستخدمها للتدليل على قلّة حديث الراوي لا لتضعيفه.
أمّا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي [ت277هـ] فإنّه إذا أطلق على راوٍ عبارة »ليس بشيء« فيريد أنه ضعيف ضعفاً شديداً وأنه متروك متّهم، حتّى أنّه أحياناً يضيف إلى عبارة »ليس بشيء« قوله: »متروك الحديث« مثلما فعل ذلك مع سليمان بن داود الشاذكوني فقد قال عنه: »ليس بشيء، متروك الحديث«[24].
أمّا عبارة »ليس به بأس« فإن يحيى بن معين [ت 234هـ] يطلقها على الثقة فقد قال رحمه الله: إذا قلت: »ليس به بأس، فثقة«. بل فإن الإمام أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي [ت 277هـ] يعبّر بقوله:»صدوق« أو »لابأس به« عن أعلى درجات التوثيق.
فالوقوف على دلالات هذه المصطلحات الخاصّة ببعض العلماء متأكّد حتّى نتجنّب الخطأ في فهم مرادهم في تعديل الرواة أو تجريحهم.
الفضفضة طالت عناوين الكتب:
وإنّ هذه الفضفضة في بعض المصطلحات طالت عناوين الكتب حيث أصبح عنوان الكتاب لا يترجم مضمونه، ومن أمثلة ذلك:
مسند الدارمي:
لقد اصطلح علماء الحديث على تسمية كتاب الرواية الذي يجمع حديث كلّ صحابيّ على حدة مسنداً.
إلا أنّ كتاب »السنن« لأبي محمد عبدالله بن عبدالرحمن الدارميّ [ت 255هـ] رغم أنّه مؤلّف على الأبواب فقد اشتهر بالمسند على غير اصطلاح المحدّثين، حتى أنّ أبا عمرو ابن الصلاح عدّه بين كتب المسانيد، أوقعه في هذا اشتهاره عند العلماء باسم مسند الدارميّ.
ولعلّه سمّي مسنداً لأنّ أحاديثه مسندة متّصلة على غرار تسمية البخاريّ كتابه بالجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه[25].
مسند الحارث بن أبي أسامة التيميّ مولاهم [ت 282هـ]:
كما أنّ هذا المسند وإن سمّي مسنداً إلا أنّه في الحقيقة معجم ذلك أنّ مؤلّفه رحمه الله رتّبه على شيوخه شأن منهج التأليف على المعاجم.
المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد اللخميّ الطبرانيّ [ت 360هـ]:
رتّب الإمام الطبرانيّ معجمه الكبير على الصحابة فقد جمع حديث كلّ صحابيّ على حدة سوى مسند أبي هريرة فكأنّه نوى إفراده فلم يدخله فيه، فهو بالمسانيد أولى إلا أنّه اشتهر عند العلماء بالمعجم.
شُحُّ التمثيل وعسر التطبيق:
إنّ كتب المصطلح المتداولة بين أيدي طلاب العلم تتّسم بندرة التمثيل على أنواع من علوم الحديث المدروسة في تلك الكتب فغلب عليها الطابع النظريّ، والحال أنّه ينبغي أن يقوم هذا العلم على أساس التطبيق لواقع ما يدرس من موضوعاته حتى تكون واضحة المعالم.
فهذا ابن الصلاح يعرّف الصحيح ويذكر ما يحترز بكل شرط من شروطه، وسبب اختلاف العلماء في صحّة بعض الأحاديث، وينتقل إلى ذكر جملة من الفوائد المهمة، دون أن يذكر مثالاً واحداً[27] ليطبق عليه التعريف وملحقاته من الفوائد.
ونفس الصنيع سلكه الإمام النوويّ في التقريب، وحتّى الإمام السيوطيّ رغم توسّعه في شرح التعريف وبيان محترزاته وذكره جملة من التنبيهات المفيدة إلا أنه لم يورد مثالاً واحداً على الصحيح.
وفي موضوع الحسن رغم تنوّع قضاياه ومسائله فإنّ مثالاً تطبيقياً واحداً لم يطرحه أحد ممّن درسوه رغم كثرتهم بداية من الترمذيّ فالخطابيّ فابن الصلاح، وحتى الإمام السيوطيّ رحمهم الله، وإذا قيل إنّ الصحيح لذاته والحسن لذاته يمكن تعرّفهما بنظرة سريعة في كتب الصحاح والسنن، فإنّ الصحيح لغيره والحسن لغيره يحتاجان لدراسة وتدبّر لمعرفة موطن الضعف ثم الوقوف على المتابعات التي تجبر هذا الضعف حتى يرتقي الحديث الحسن إلى الصحيح لغيره والضعيف إلى الصحيح لغيره أو إلى الحسن لغيره.
وفي دراسة الضعيف غلب على ابن الصلاح الطابع النظري فلم يورد مثالاً واحداً على أقسامه الكثيرة التي ولّدها بتصوّر اختلال شرط واحد من شروط الصحيح أو الحسن، ثم شرطين، ثم شرط ثالث مركّب من الأول والثاني وهكذا.. فهو يقول: »وسبيل من أراد البسط أن يعمد إلى صفة معيّنة منها فيجعل ما عدمت فيه من غير أن يخلفها جابر،على حسب ما تقرّر في نوع الحسن، قسماً واحداً، ثم ما عدمت فيه تلك الصفة مع صفة أخرى معيّنة قسماً ثانياً ثم ما عدمت فيه مع صفتين معيّنتين قسماً ثالثاً، وهكذا...«. وهذه التصوّرات ممّا يعسر إيجاد أمثلة تطبيقيّة لها.
ومن الأمثلة على عسر التطبيق موضوع الإسناد العالي والنازل، ولنذكر هنا محاولة الشيخ محمد محمّد أبي شهبة[28] رحمه الله إيراد مثال تطبيقي لبعض أقسام العلو، فبعد أن يعرّف العلوّ، يذكر أقسامه[29] وحتّى إذا ما وصل إلى القسم الثالث وهو العلو بالنسبة إلى رواية أحد الكتب الستة أو غيرها من الكتب المعتمدة، يذكر أقسامه الأربعة، وهي:
أ. الموافقة ب. والإبدال ج. والمساواة د. والمصافحة.
ثم يعرّف الموافقة بقوله: »هي أن يروي الراوي حديثاً في أحد الكتب الستة مثلاً بإسناد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب بحيث يجتمع معه في شيخه مع علوّ هذا الطريق على ما لو رواه من طريق أحد أصحاب هذه الكتب«.
ثم يحاول عرض مثال تطبيقي للموافقة نقلاً عن ابن حجر فيقول: »قال الحافظ ابن حجر: مثاله: روى البخاري عن قتيبة بن سعيد عن مالك حديثا:
ـ فلو رويناه من طريقه [ أي من طريق البخاري] كان بيننا وبين قتيبة ثمانية.
ـ ولو روينا ذلك الحديث بعينه عن طريق أبي العبّاس السرّاج [218 - 313هـ تلميذ البخاري وتلقّى عنه البخاريّ ومسلم] لكان بيننا وبين قتيبة فيه سبعة.
فقد حصلت لنا الموافقة مع البخاريّ في شيخه بعينه مع علوّ الإسناد بدرجة«.
فهذا المثال ولئن كان مقبولاً نظرياً إلا أنّ تطبيقه على الواقع يبدو عسيراً إن لم يكن متعذراً:
فما هو هذا الحديث الذي رواه البخاري عن قتيبة بن سعيد عن مالك؟
وما هو هذا السند الذي لو روينا الحديث به عن طريق البخاريّ لكان بيننا وبين قتيبة بن سعيد ثمانية ؟ ومن هم هؤلاء الثمانية ؟
وما هو السند الذي إذا روينا به الحديث بعينه عن أبي العبّاس السرّاج كان بيننا وبين قتيبة فيه سبعة ؟ ومن هم هؤلاء السبعة ؟
أسئلة لا يتأتّى فهم المثال التطبيقي للتعريف إلا بالإجابة عنها بوضوح.
وما يقال في الموافقة يقال في الإبدال وفي المساواة، والمصافحة.
وجلّ أنواع علوم الحديث وإن قتلت بحثاً نظرياً من حيث تعريفها وبيان أنواعها، واستعراض أقوال العلماء فيها، إلا أنّها تعاني من شحّ الأمثلة التطبيقية وإن وجدت فالكثير منها أمثلة تقديرية غير قابلة للتطبيق، فأضحت مشوبة بعدم الوضوح المطلوب.
وبعد:
فإنّ علم المصطلح دراية شأنه شأن أغلب علوم الوسائل يقوم في ظنّي على المنطق والعقل، وإنّ أسلافنا الميامين من العلماء البررة بذلوا جهوداً مضنية في بناء هذا الصرح الشامخ وخدمته حتّى أصبح علماً فريداً في قوّته وأهمّيّته بين العلوم إلا أنّ اختلاف أنظار العلماء وتزاحم آرائهم حول تحرير مصطلحاته والتعبير عنها بطرق متعدّدة جعلت بعض تعريفاته تتعرّض لشيء من الإخلال التي تفقدها الشرط الجوهري للتّعريف وهو أن يكون جامعاً مانعاً. كما أنّ توسّعهم في التحليل والتصوّر عسّر عمليّة الوصول إلى أمثلة تطبيقية تعبّر عن واقع المصطلح. وإذا كان العلماء المتمرّسون لا يضنيهم البحث عنها والوصول إلى المراد، فإنّ طلبة العلم المبتدئين خاصّة يجدون من العسر في فهمها ما قد يجعلهم يشيحون عنها.
ولتقريب جني ثمار هذا العلم الشريف لطلابنا ولتحبيبهم فيه لابدّ من تيسير وصول هذا العلم إليهم واضحاً، بيّناً، بمصطلحاته وأمثلته، ويحضرني هنا مثال على الكتب التعليميّة الواضحة والناجحة هو كتاب »البلاغة الواضحة« فقد سلك مؤلفاه عليّ الجارم، ومصطفى أمين رحمهما الله نهجاً تعليميّاً واضحاً فيبدآن عند دراسة كلّ نوع من أنواع علم البلاغة:
بعرض جملة من الأمثلة.
ثم يشرعان في بحث تلك الأمثلة ودراستها.
ويخلصان من البحث إلى استخلاص القاعدة أو القواعد فيصوغانها بعبارات محرّرة جامعة مانعة.
ثم يعرضان نماذج لتطبيق القاعدة عليها.
ثم يوردان جملة من التمرينات التطبيقية.
فييصبح الموضوع على درجة كبيرة من الوضوح والجلاء.
وإنّ وضعنا لكتاب في علوم الحديث على غرار هذا الكتاب سيحوّل أنواع المصطلح إلى مسائل واضحة تقوم على صيغ محرّرة للمصطلح، يدعمها مثال فأكثر يصدّق النظريّة، مع الإشارة دائما في الهامش إلى المصطلحات الخاصّة ببعض العلماء حتّى نفهم مرادهم ونفتّح مغاليق ما يواجهنا منها في مسيرة البحث والدراسة. وبذلك نسهم في خدمة هذا العلم الشريف، ونعمل على تقريبه إلى شريحة واسعة من أبناء المسلمين المتعطّشين لدراسة سنّة نبيّهم ومعرفة ما يصلح منها للاحتجاج وما لا يصلح.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
قائمة المصادر والمراجع
1 ـ الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير [ت774هـ]
ـ تأليف أحمد محمد شاكر. ـ دار الكتب العلميّة ـ بيروت (بدون بيان عدد الطبعة ولا تاريخها ولا مكانها).
2 ـ بستان المحدّثين في بيان كتب الحديث وأصحابها الغرّ الميامين.
ـ الإمام عبدالعزيز بن الإمام وليّ الله الدهلويّ [ت1239هـ]، نقله عن الفارسيّة، محمّد أكرم الندويّ ـ ط1 ـ 2002 ـ دار الغرب الإسلاميّ ـ بيروت.
3 ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي [ت676هـ].
ـ الحافظ جلال الدين عبدالرحمن السيوطيّ [ت911هـ].
ـ حقّقه عبدالوهاب عبداللطيف ـ دار الفكر ـ مطبعة السعادة بمصر.
4 ـ التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير للنوويّ انظر تدريب الراوي.
5 ـ التقييد والإيضاح شرح مقدّمة ابن الصلاح.
ـ زين الدين عبدالرحيم العراقي [ت806هـ].
ـ حقّقه عبدالرحمن محمد عثمان ـ ط1 ـ 1389هـ/1969م ـ المكتبة السلفيّة بالمدينة المنوّرة.
6 ـ الجرح والتعديل.
ـ أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي [ت327هـ].
ـ ط1 ـ حيدر آباد الدكن ـ الهند 1371هـ/1952م.
7 ـ الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدّثين.
ـ الأستاذ الدكتور الشيخ /أحمد محرّم الشيخ ناجي.
ـ ط1 ـ 1407هـ/1987م ـ مطبعة الأمانة ـ مصر.
8 ـ الكفاية في علوم الرواية.
ـ أبو بكر أحمد الخطيب البغدادي [ت463هـ] ـ تقديم محمد الحافظ التيجانيّ.
ـ ط2 ـ 1972/ ـ الناشر دار الكتب الحديثة [ القاهرة] ـ مكتبة المثنّى [بغداد].
9 ـ محاضرات في علوم الحديث.
ـ مصطفى أمين التازي. ط3 ـ مطبعة دار التأليف 1971 ـ مصر.
10 ـ معرفة علوم الحديث.
ـ أبو عبدالله الحاكم النيسابوري [ت405هـ]. ـ تحقيق السيّد معظم حسين.
ـ ط2 ـ 1977م. المكتب التجاريّ للطباعة والتوزيع والنشر ـ بيروت.
11 ـ مقاصد الحديث في القديم وفي الحديث.
ـ مصطفى أمين التازي. ط5 ـ مطبعة دار التأليف بالمالية ـ مصر.
12 ـ مقدمة ابن الصلاح [ت643هـ]
ومحاسن الاصطلاح لأبي حفص عمر بن رسلان السراج البلقينيّ [ت805هـ]
ـ تحقيق عائشة عبدالرحمن [ بنت الشاطئ]. ـ دار المعارف ـ القاهرة.
13 ـ الوسيط في علوم ومصطلح الحديث.
ـ الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة.
ـ ط1 ـ 1403هـ/1983م ـ عالم المعرفة للنشر والتوزيع ـ جدّة.
(2) مقدّمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح للبلقيني ـ ص 35 تحقيق عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ، دار المعارف مصر (دون بيان عدد الطبعة ولا تاريخها) ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي،للحافظ جلال الدين عبدالرحمن السيوطيّ ـ 1/155 حقّقه عبدالوهاب عبداللطيف ـ دار الفكر ـ(مطبعة السعادة بمصر)،(بدون ذكر عدد الطبعة ولا تاريخها). [عرّف الترمذي الحسن بقوله: هو كلّ حديث يروى،لا يكون في إسناده من يتّهم بالكذب، ولا يكون شاذّا ويروى نحو ذلك من وجه آخر. وعرّفه الخطابي بقوله:هو ما عرف مخرجه،واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامّة الفقهاء. وعرّفه ابن الجوزي بقوله: هو الذي فيه ضعف قريب محتمل].
(1) وهي خمسة أقسام:1 ـ وهو أجلّها: القرب من رسول الله بإسناد صحيح نظيف.2 ـ القرب من إمام من أئمة الحديث [مثل شعبة ومالك والثوري والشافعيّ..] وإن كثر بعده العدد من رسول الله . 3 ـ العلوّ بالنسبة إلى رواية أحد الكتب الستة أو غيرها من الكتب المعتمدة كمسند أحمد .وهذا القسم يتفرّع إلى: [أ ـ الموافقة . ب ـ الإبدال . ـ ج ـ المساواة . د ـ المصافحة] . 4 ـ العلوّ بتقدّم وفاة الراوي وإن تساويا في العدد . 5 ـ العلوّ بتقدّم السماع من الشيخ، فمن سمعه متقدّما كان أعلى ممّن سمع منه بعده.
Komentar
Posting Komentar