محنة ابن تيمية
يرويها بنفسه يوما بيوم
مع مدائح الشيخ ومراثيه وثناء العلماء عليه
جمع وتحقيق :
محمد عبد الحكيم القاضي
" ما يصنع أعدائي بي ؟
أنا جنتي وبستاني في صدري ؛ أين رحت فهي معي ، لا تفارقني :
أنا حبسي خلوة
وقتلي شهادة
وإخراجي من بلدي سياحة .. "
" المحبوس من حُبس قلبُه عن ربه ، والمأسور منَ أسره هواه "
شيخ الإسلام ابن تيمية
" ما رأينا أفتى ([1]) من ابن تيمية ؛ سعينا في دمه ، فلما قدر علينا عفا عنا "
ابن مخلوف القاضي
من الشعر المنسوب لشيخ الإسلام رحمه الله :
====================================
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِه لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّل
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّــل
وَلِكُلِّهِمْ قَـدْرٌ وَفَضْلٌ سـاطِعٌ لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَـل
وأُقِـرُّ بِالقُرآنِ ما جاءَتْ بِـهً آياتُـهُ فَهُوَ القَديـمُ المُنْـزَلُ
وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّهـا حَقـاً كما نَقَـلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ
وأَرُدُّ عُقْبَتَـهـا إلى نُقَّالِهـا وأصونُها عـن كُلِّ ما يُتَخَيَّلُ
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ الكِّتابَ وراءَهُ وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ
والمؤمنون يَـرَوْنَ حقـاً ربَّهُمْ وإلى السَّمـاءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ
وأُقِرُ بالميـزانِ والحَوضِ الذي أَرجـو بأنِّي مِنْـهُ رَيّاً أَنْهَـلُ
وكذا الصِّراطُ يُمَدُّ فوقَ جَهَنَّمٍ فَمُوَحِّدٌ نَـاجٍ وآخَـرَ مُهْمِـلُ
والنَّارُ يَصْلاها الشَّقيُّ بِحِكْمَةٍ وكذا التَّقِيُّ إلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ
ولِكُلِّ حَيٍّ عاقـلٍ في قَبـرِهِ عَمَلٌ يُقارِنُـهُ هنـاك وَيُسْـأَلُ
هذا اعتقـادُ الشافِعيِّ ومالكٍ وأبي حنيفـةَ ثم أحـمدَ يَنْقِـلُ
فإِنِ اتَّبَعْتَ سبيلَهُمْ فَمُوَحِّـدٌ وإنِ ابْتَدَعْتَ فَما عَلَيْكَ مُعَـوَّلًًًً
) بسم الله الرحمن الرحيم (
ترجمة
ابن تيمية
رحمه الله تعالى
وقد اخترناها من كتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه :
الذيل على طبقات الحنابلة
لابن رجب الحنبلي
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم ابن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني ، ثم الدمشقي ، الإمام الفقيه ، المجتهد المحدث ، الحافظ المفسر ، الأصولي الزاهد . تقي الدين أبو العباس ، شيخ الإسلام وعلم الأعلام ، وشهرته تغنى عن الإطناب في ذكره ، والإسهاب في أمره .
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى ستين وستمائة بحران .
وقدم به والده و بإخواته إلى دمشق ، عند استيلاء التتر على البلاد ، سنة سبع وستين
فسمع الشيخ بها من ابن عبد الدايم ، وابن أبي اليسر ، وابن عبد ، والمجد ابن عساكر ، ويحيى بن الصيرفي الفقيه ، وأحمد بن أبي الخير الحداد ، والقاسم الأربلي ، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر ، ولمسلم بن علان ، وإبراهيم بن الدرجي ، وخلفه كثير .
وعني بالحديث وسمع " المسند " مرات ، والكتب الستة ، ومعجم الطبراني الكبير ، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء . وقرأ بنفسه ، وكتب بخطه جملة من الأجزاء ، وأقبل على العلوم في صغره . فأخذ الفقه والأصول . عن والده ، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر ، والشيخ زين الدين بن المنجا . وبرع في ذلك ، وناظر . وقرأ في العربية أياماً على سليمان بن عبد القوى ، ثم أخذ كتاب سيبويه ، فتأمله ففهمه . وأقبل على تفسير القرآن الكريم ، فبرز فيه ، وأحكم أصول الفقه ، والفرائض ()[2] ، والحساب والجبر والمقابلة ، وغير ذلك من العلوم ، ونظر في علم الكلام الفلسفة ، وبرز في ذلك على أهله ، ورد على رؤسائهم وأكابرهم ، ومهر في هذه الفضائل ، وتأهل للفتوى و التدريس ، وله دون العشرين سنة ، وأفتى من قبل العشرين أيضاً ، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ ، وقوة الإدراك والفهم ، وبطء النسيان ، حتى قال غير واحد : إنه لم يكن يحفظ شيئاً فينساه .
ثم توفى والده إحدى وعشرين سنة . فقام بوظائفه بعده . فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة .
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكى ، والشيخ تاج الدين الغزاري ، وزين الدين بن المرجل ، والشيخ زين الدين المنجا ، وجماعة ، وذكر درساً عظيماً في البسملة . وهو مشهور بين الناس ، وعظمه الجماعة الحاضرون ، وأثنوا عليه ثناءً كثيراً .
قال الذهبي : وكان الشيخ تاج الدين الغزاري ، يبالغ في تعظيمه الشيخ تقي الدين ، بحيث إنه علق بخطه درسه بالسكرية ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع ، لتفسير القرآن العظيم ، وشرع من أول القرآن . فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر ، وبقي يفسر في سورة نوح ، عدة سنين أيام الجمع .
وفي سنة تسعين : ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئاً من الصفات ، فقام بعض المخالفين ، وسعوا في منعه من الجلوس ، فلم يمكنهم ذلك .
وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخوي : أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين ، فعوقب في ذلك . فقال : لأن ذهنه صحيح ، ومواده كثيرة ، فهو لا يقول إلا الصحيح .
وقال الشيخ شرف الدين المقدسي : أنا أرجو بركته ودعاءه ، وهو صاحبي ، وأخى . ذكر ذلك البرزالي في تاريخه .
وشرع في الجمع والتصنيف ، من دون العشرين ، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره . سمع الحديث ، وأكثر بنفسه من طلبه ، وكتب وخرج ، ونظر في الرجال والطبقات ، وحصل ما لم يحصله غيره . برع في تفسير القرآن ، وغاص في دقيقة معانيه بطبع سيال ، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال ، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها . وبرع في الحديث وحفظه ، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث ، معزوا إلى أصوله و صحابته ، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل ، وفاق الناس في معرفة الفقه ، واختلاف المذاهب ، وفتاوى الصحابة والتابعين ، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب ، بل يقوم بما دليله عنده . وأتقن العربية أصولاً وفروعاً ، وتعليلاً واختلافاً . ونظر في العقليات ، وعرف أقوال المتكلمين ، ورد عليهم ، ونبه على خطئهم ، وحذر منهم . ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين . وأوذي في ذات الله من المخالفين ، وأضيف في نصر السنة المحضة ، حتى أعلى الله منارة ، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له ، وكتب أعداه ، وهدي به رجالاً من أهل الملل والنحل ، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً ، وعلى طاعته ، وأحي به الشام ، بل والإسلام ، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم ، فظنت بالله الظنون ، وزلزل المؤمنون ، واشرأب النفاق وأبدى صفحته . ومحاسنه كثيرة ، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي ، فلو حلفت بين الركن والمقام ، لحلفت : أنى ما رأيت بعيني مثله ، وأنه ما رأى مثل نفسه .
وقد قرأت بخط الشيخ العلامة شيخنا كما الدين ابن الزملكاني ، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم . " ابن تيمية " كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي و السامع : أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله . وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذهبهم أشياء ، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع منه ، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله ، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها .
وقال الذهبي في معجمه المختصر : كان إماماً متجراً في علوم الديانة ، صحيح الذهن ، سريع الإدراك ، سيال الفهم ، كثير المحاسن ، موصوفاً بفرط الشجاعة والكرم ، فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع ، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه . والعمل بمقتضاه .
قلت : وقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ ، فلم يقبل شيئاً من ذلك . قرأت ذلك بخطه .
قال الذهبي : ذكره أبو الفتح اليعمري الحافظ - يعنى ابن سيد الناس - في جواب سؤالات أبي العباس الدمياطي الحافظ ، فقال : ألفيته ممن أدرك من العلوم حظا . وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً ، إن تكلم في التفسير فهو حامل رأيته ، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته ، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه ، وذو روايته ، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته ، ولا أرفع من درايته ، برز في كل فن على أبناء حسنه ، ولم ترعين من رآه مثله ، ولا رأت عينه مثل نفسه .
وقد كتب الذهبي في تاريخه الكبير للشيخ ترجمة مطولة ، وقال فيها : وله خبرة تامة بالرجال ، وجرحهم وتعديلهم . وطبقاتهم ، ومعرفة بفنون الحديث ، وبالعالي والنازل ، والصحيح والسقيم ، مع حفظة لمتونه ، الذي أنفرد به ، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ، ولا يقاربه ،و هو عجيب في استحضاره ، واستخراج الحجج منه ، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة ، والمسند ، بحيث يصدق عليه أن يقال : كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث .
وقال : ولما كان معتقلاً بالإسكندرية : التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده ، فكتب لهم في ذلك نحواً من ستمائة سطر ، منها سبعة أحاديث بأسانيدها ، والكلام على صحتها ومعانيها ، وبحث وعمل ما إذا نظر فيه المحدث خضع له من صناعة الحديث . وذكر أسانيده في عدة كتب . ونبه على العوالى . عمل ذلك كله من حفظه ، من غير أن يكون عنده ثبت أو من يراجعه .
ولقد كان عجيباً في معرفة علم الحديث . فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والسند : فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلاً .قال : وأما التفسير فمسلم إليه ، وله من استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة . وإذا رآه المقرئ تحير فيه . ولفرط إمامته في التفسير ، وعظم إطلاعه . يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين . ويوهي أقولا عديدة . وينصر قولا واحداً ، موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث . ويكتب في اليوم والليلة من التفسير ، أو من الفقه ، أو من الأصلين ، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل : نحواً من أربعة كراريس أو أزيد . قلت : وقد كتب " الحموية " في قعدة واحدة . وهي أزيد من ذلك . وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد .
وكان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن ، ومعرفة حقائق الإيمان . وله يد طولي في الكلام على المعارف والأحوال والتمييز بين صحيح ذلك الزملكاني بخطه على كتاب " إبطال التحليل " للشيخ ترجمة لكتاب واسم الشيخ . وترجم له ترجمة عظيمة . وأثنى عليه ثناء عظيماً .
وكتب أيضاً تحت ذلك :
ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهـــرة هو بيـننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهــرة أنوارهـا أربت على الفجر
وللشيخ أثير الدين أبي حيان الأندلس النحوي - لما دخل الشيخ مصر واجتمع به - ويقال : إن أبا حيان لم يقل أبياتا خيرا منها ولا أفحل :
لما رأينا تـقي الدين لاح لنا داع إلى الله فرداً ، ماله وزر على محياه من سيما الأولى صحبوا خير البرية نور دونه القمر
خبر تسر بل منه دهره صبرا بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا مقام سيد تيم إذ عصت مضر فأظهر الدين إذ آثاره درست وأخمد الشرك إذ طارت له شرر
يا من تحدث عن علم الكتاب أصخ هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
وحكى الذهبي عن الشيخ : أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال له - عند اجتماعه به وسماعه لكلامه - : ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك
ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ أبي عبد الله الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين المذكور أما قول سيدي في الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره . و زخارة بحره وتوسعه في الشرعية والعقلية . وفرط ذكائه واجتهاده . وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف . والمملوك يقول ذلك دائماً . وقدره في نفس أكبر من ذلك وأجل . مع ما جمعه الله له من الزهاده والورع والديانة . ونصرة الحق . والقيام فيه لا نعرض سواه . وجريه على سنن السلف . وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى . وغرابة مثله في هذا الزمان . بل من أزمان .
وكان الحافظ أبو الحجاج المزي : يبالغ في تعظيم الشيخ والثناء عليه ، حتى كان يقول : لم ير مثله منذ أربعمائة سنة .
وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني : أنه سئل عن الشيخ ؟ فقال : لم ير من خمسمائة سنة ، أو أربعمائة سنة . الشك من الفاقل . وغالب ظنه : أنه قال : من خمسمائة - أحفظ منه .
وكذلك كان أخوه الشيخ شرف الدين يبالغ في تعظيمه جداً وكذلك المشايخ العارفون ، كالقدوة أبي عبد الله محمد بن قوام ويحكي عنه أنه كان يقول : ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية .
والشيخ عماد الدين الواسطى كان يعظمه جداً ، وتتلمذ له ، مع أنه كان أ سس منه . وكان يقول : قد شارف مقام الأئمة الكبار ، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقين .
وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه ، ويعرفهم حقوقه ، ويذكر فيها : أنه طاف أعيان بلاد الإسلام ، ولم ير فيها مثل الشيخ علماً وعملاً ، وحالاً وخلقا واتباعا وكرما وحلما في حق نفسه ، وقياما في حق الله تعالى ، عند انتهاك حرماته . وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات .
ثم قال : أصدق الناس عقداً ، وأصحهم علما وعزما ، وأنقذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه ، وأسخاهم كفا ، وأكملهم اتباعا لنبيه محمد r . ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل ، بحيث يشهد القلب الصحيح . أن هذا هو الاتباع حقيقة .
ولكن كان هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشيخ كلامه في بعض الأئمة الأكابر الأعيان ، أو في أهل التخلي والانقطاع ونحو ذلك .
وكان الشيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إلا الخير ، والانتصار للحق إن شاء الله تعالى .
وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقائهم : كانوا يحبون الشيخ و يعظمونه ، ولم يكونوا يحبون له التوغل مع أهل الكلام و لا الفلاسفة ، كما هو طريقة أئمة أهل الحديث المتقدمين ، كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم ، وكذلك كثير من العلماء من الفقهاء والمحدثين والصالحين كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذ بها ، حتى إن بعض قضاة العدل من أصحابنا منعه من الإفتاء ببعض ذلك .
قال الذهبي : وغالب خطه على الفضلاء و المتزهده فبحق ، وفي بعضه هو مجتهد ، ومذهبه توسعة العذر للخلق ، ولا يكفر أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه .
قال : ولقد نصر السنة المحضة ، والطريقة السلفية ، واحتج لها ببراهين ومقدمات ، وأمور لم يسبق إليها ، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا ، وجر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه ، وبدعوه وناظروه وكابروه ، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي ، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده ، وحده ذهنه ، وسعة دائرته في السنن والأقوال ، مع ما اشتهر عنه من الورع ، وكمال الفكر ، وسرعة الإدراك ، والخوف من الله ، و التعظيم لحرمات الله .
فجرى بينه وبينهم حملات حربية ، ووقعات شامية ومصرية ، وكم من نوبة قدرموه عن قوس واحدة ، فينجيه الله . فإنه دائم الابتهال ، كثير الاستغاثة ، والاستعانة به قوى التوكل ، ثابت الجأس ، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية . وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ، ومن الجند والأمراء ومن التجار والكبراء ، وسائر العامة تحبه ؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً ، بلسانه وقلمه .
وأما شجاعته : فبها تضرب الأمثال ، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال . ولقد أقامه لله تعالى في نوبة قازان . والتقى أعباء الأمر بنفسه . وقام وقعد وطلع ، ودخل وخرج ، واجتمع بالملك - يعنى قازان - مرتين ، وبقطلوا شاه ، وبولاى . وكان قيجق يتعجب من إقدامه وجرائته على المغول .
وله حده قوية تعتريه في البحث ، حتى كأن ليث حرب . وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته . وفيه قلة مدارة ، وعدم تؤدة غالبا ، والله يغفر له . وله إقدام و شهامة ، وقوة نفس توقعه في أمور صعبة ، فيدفع الله عنه .
وله نظم قليل وسط ، ولم يتزوج ، ولا تسرى ، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل . وأخوه يقوم بمصالحه ، ولا يطلب منهم غذاء ولا عشاء في غالب الوقت .
وما رأيت في العالم أكرم منه ، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم ، لا يذكره ، ولا أظنه يدور في ذهنه . وفيه مروءة ، وقيام مع أصحابه ، وسعى في مصالحهم . وهو فقير لا مال له . وملبوسه كآحاد الفقهاء : فَرَّجِيَّه ، ودلق ، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهما ، ومداس ضعيف الثمن . وشعره مقصوص .
وهو ربع القامة ، بعيد ما بين المنكبين ، كأن عينيه لسانان ناطقان ، ويصلي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجود . وربما قام لمن يجئ من سفر أو غاب عنه ، وإذا جاء فربما يقومون له ، الكل عنده سواء ، كأنه فارغ من هذه الرسوم ، ولن ينحن لأحد قط ، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم . وقد يعظم جليسه مرة ، ويهينه في المحاورة مرات .
قلت : وقد سافر الشيخ مرة على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجئ التترسنة من السنين ، وتلا علهم آيات الجهاد ، وقال : إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم ، فإن الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم ، ويستبدل بكم سواكم . وتلا قوله تعالى ) وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( ([3]) وقوله تعالى ) إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً و يستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئا ( ([4])
وبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - وكان هو القاضي حينئذ - فاستحسن ذلك ، وأعجبه هذا الاستنباط وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام .
محنة
شيخ الإسلام - رحمه الله
وأما محن الشيخ : فكثيرة ، وشرحها يطول جداً .
وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلا ، بسبب قيامه على نصراني سب الرسول r واعتقل معه الشيخ زين الدين الفاروقي ، ثم أطلقهما مكرمين
تصنيف الحموية
وبداية المحنة
ولما صنف المسألة " الحموية " في الصفات : شنع بها جماعة ، ونودي عليها في الأسواق على قصبة ، وأن لا يستفتي من جهة بعض القضاة الحنفية . ثم انتصر للشيخ بعض الولاة ، ولم يكن في البلد حينئذ نائب ، وضرب المنادي وبعض من معه ، وسكن الأمر .
تاريخ المحنة
وأهم ما وقع بها
ثم امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان ؟ فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر ، وأحضر الشيخ ، وسأله عن ذلك ؟ فبعث الشيخ من أحضر من داره " العقيدة الواسطية " فقرءوها في ثلاث مجالس ، وحاققوه ، و بحثوا معه ، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سنية سلفية ، فمنهم من قال ذلك طوعاً ، ومنهم من قاله كرها وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه : إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف .
ثم إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ ، ورأوا أنه لا يمكن البحث معه ، ولكن يعقد له مجلس ، ويدعى عليه ، وتقام عليه الشهادات . وكان القائمون في ذلك منهم : بيبرس الجاشنكير ، الذي تسلطن بعد ذلك ، ونصر المنبجي وابن مخلوف قاضي المالكية ، فطلب الشيخ على البريد إلى القاهرة ، وعقد له ثاني يوم وصوله - وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة - مجلس بالقلعة ، وادعى عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية ، أنه يقول : أن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت وأنه على العرش بذاته ، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية .
وقال المدعى : أطلب تعزيره على ذلك ، التعزير البليغ - يشير إلى القتل على مذهب مالك - فقال القاضي : ما تقول يا فقيه : أأمنع من الثناء على الله تعالى ؟ فقال القاضي : أجب ، فقد حمدت الله تعالى . فسكت الشيخ ، فقال : أجب . فقال الشيخ له : من هو الحاكم في ؟ فأشاروا : القاضي هو الحاكم ، فقال الشيخ لابن مخلوف : أنت خصمي ، كيف تحكم في ؟ وغضب ومراده : إني وإياك متنازعان في هذه المسائل ، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها ؟ فأقيم الشيخ ومعه أخواه ، ثم رد الشيخ ، وقال رضيت أن تحكم في ، فلم يمكن من الجلوس ، ويقال : إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل ، ودعا الله عليهم في حال خروجهم ، فمنعه الشيخ ، وقال له : بل قل : اللهم هب لهم نورا يهتدون به إلى الحق .
ثم حبسوا في برج أياما ، ونقلوا إلى الجب ليلة عيد الفطر ، ثم بعث كتاب سلطاني إلى الشام بالحط على الشيخ ، والزم الناس - خصوصاً أهل مذهبه - بالرجوع عن عقيدته ، والتهديد بالعزل والحبس ، ونودي بذلك في الجامع والأسواق . ثم قرئ الكتاب بسدة الجامع بعد الجمعة ، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة ، وحبس بعضهم ، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع . وكان قاضيهم الحراني قليل العلم .
ثم في سلخ رمضان سنة ست : أحضر سلار - نائب السلطان بمصر - القضاة والفقهاء ، وتكلم في إخراج الشيخ ، فاتفقوا على أنه يشترط إليه من يحضره ، وليتكلموا معه في ذلك ، فلم يجب إلى الحضور ، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات ، وصمم على عدم الحضور ، فطال عليهم المجلس ، فانصرفوا من غير شيء .
ثم في آخر هذه السنة وصل كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق من الشيخ ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه ، وأثنى عليه : وقال ما رأيت مثله ، ولا أشجع منه وذكر ما هو عليه في السجن : من التوجه إلى الله تعالى ، وأنه لا يقبل شيئاً من الكسوة السلطانية ، ولا من الأدوار السلطاني ، ولا تدنس بشيء من ذلك .
ثم في ربيع الأول من سنة سبع وسبعمائة دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر ، وحضر بنفسه إلى السجن ، وأخرج الشيخ منه ، بعد أن استأذن في ذلك ، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء ، وانفصلت على خير .
وذكر الذهبي والبرزالى وغيرهما : أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملا من القول وألفاظاً فيها بعض ما فيها ، لما خاف وهدر بالقتل ، ثم أطلق وامتنع من المجئ إلى دمشق . وأقام بالقاهرة يقرئ العلم ، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة ، ويجتمع عليه خلق .
ثم في شوال من السنة المذكورة : اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية ، وشكوا من الشيخ إلى الحاكم الشافعي ، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي وغيره ، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء ، ولم يثبت منها شيئاً ، لكنه اعترف أنه قال : لا يستغاث بالنبي r ، استغاثة بمعنى العبارة ولكن يتوسل به ، فبعض الحاضرين قال : ليس في هذا شيء .
ورأى الحاكم ابن جماعة : أن هذا إساءة أدب ، وعنفه على ذلك ، فحضرت رسالة إلى القاضي : أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك ، فقال القاضي : قلت له ما يقال لمثله .
ثم إن الدولة خيروه بين أشياء ، وهي الإقامة بدمشق ، أو بالإسكندرية ، بشروط ، أو الحبس ، فاختار الحبس . فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط عليه ، فأجابهم ، فأركبوه خيل البريد ، ثم ردوه في الغد ، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء ، فقال له بعضهم : ما ترضى الدولة إلا بالحبس فقال القاضي : وفيه مصلحة له ، واستناب التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس ، فامتنع ، وقال : ما ثبت عليه شيء ، فأذن لنور الدين الزواوي المذكور : فيكون في موضع يصلح لمثله ، فقيل له : ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس ، وأذن أن يكون عنده من يخدمه . وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجي .
واستمر الشيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس ، ويزورونه ، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس .
وكان أصحابه يدخلون عليه أولاً سراً ، ثم شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه ، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر ، إلى الإسكندرية على البريد ، وحبس فيها في برج حسن مضيء متسع ، يدخل عليه من شاء ، ويمنع هو من شاء ، ويخرج إلى الحمام إذا شاء . وكان قد أخرج وحده ، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غير مرة ، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره ، وكثر الدعاء له . وبقي في الإسكندرية مده سلطنة المظفر .
فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة وتمكن ، وأهلك المظفر ، وحمل شيخه نصر المنجبى ، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر ، وعزل بعضهم : بادر بإحضار الشيخ إلى القاهرة مكرماً في شوال سنة تسع وسبعمائة ، وأكرمه السلطان إكراما زائدة ، وقام إليه ، وتلقاه في مجلس حفل ، فيه قضاة المصريين و الشاميين ، و الفقهاء وأعيان الدولة ، وزاد في إكرامه عليهم ، وبقى يُسارّه ويستشير سويعة ، أثنى عليه بحضورهم ثناء كثيرا ، وأصلح بينه وبينهم ، و يقال : إنه شاورهم في أمرهم به في حق القضاة ، فصرفه عن ذلك ، وأثنى عليهم ، وأن ابن مخلوف كان يقول : ما رأينا أفتى من ابن تيمية ، سعينا في دمه ، فلما قدر علينا عفا عنا .
واجتمع بالسلطان مرة ثانية بعد أشهر ، و سكن الشيخ بالقاهرة ، والناس يترددون إليه ، والأمراء والجند ، وطائفة من الفقهاء ، ومنهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع .
قال الذهبي : وفي شعبان سنة إحدى عشرة : وصل النبأ : أن الفقيه البكري - أحد المبغضين للشيخ - استفرد بالشيخ بمصر ، ووثب عليه ، ونتش بأطواقه وقال : احضر معي إلى الشرع ، فلي عليك دعوى ، فلما تكاثر الناس انملص ،فطلب من جهة الدولة ، فهرب واختفى0
وذكر نميره :أنه ثار بسبب ذلك فتنة ،وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشيخ من ذلك 0
واتفق بعد مدة : أن البكري هم السلطان بقتله ، ثم رسم بقطع لسانه ؛ لكثرة فضوله وجراءته ، ثم شفع فيه ، فنفى إلى الصعيد ، ومنع من الفتوى بالكلام في العلم . وكان الشيخ في هذه المدة يقرئ العلم ، و يجلس للناس في مجالس عامة .
قدم إلى الشام هو واخوته سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد ، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشام . فخرج مع الجيش ، وفارقهم من عسقلان ، وزار البيت المقدس .
ثم دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين ، ومعه أخواه وجماعة ، وخرج خلفه كثير لتلقيه ، وسر الناس بمقدمه ، و استمر على ما كان عليه أولاً ، من إقراء العلم ، وتدريسه بمدرسة السكرية ، والحنبلية وإفتاء الناس ونفعهم .
ثم في سنة ثمان عشرة : ورد كتاب من لسلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير ، وعقد له مجلس بدار السعادة ، ومنع من ذلك ، ونودي به في البلد ، ثم في سنة تسع عشرة عقد له مجلس أيضاً كالمجلس الأول ، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك ، وعوتب على فتياه بعد المنع ، وانفصل المجلس على تأكيد المنع .
ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك ، وعوتب وحبس بالقلعة ، ثم حبس لأجل ذلك مرة أخرى ، ومنع بسببه من الفتيا مطلقاً ، فأقام مدة يفتى بلسانه ، ويقول : لا يعنى كتم العلم .
وفي آخر الأمر : دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى القبور الأنبياء والصالحين ، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء ، وذلك كفر ، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء ، وهم ثمانية عشر نفسا ، رأسهم القاضي الإصناني المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه ، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهراً . و بهامات رحمه الله : أن ما حكم عليه به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة جداً ، وأفتى جماعة بأنه يخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم ، ووافقه جماعة من علماء بغداد ، وغيرهم . وكذلك ابنى أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا : أنه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلا ، وأنه نقل خلاف العلماء في المسألة ، ورجح أحد القولين فيها .
وبقى مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه ، وبرسل إلى أصحابه الرسائل ، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة من العلوم العظيمة ، والأحوال الجسيمة .
وقال : قد فتح الله على في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن ، ومن أصول العلم بأشياء ، كان كثير من العلماء يتمنونها ، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن ، ثم إنه منع من الكتابة ، ولم يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق ، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر .
قال شيخنا أبو عبد الله ابن القيم : سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ، نور ضريحه يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخل جنة الآخرة قال : وقال لي مرة : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي و بستاني في صدري ، أين رحت فهي معي ، لا تفارقني ، أنا حبسي خلوة . قتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة .
وكان في حبسه في القلعة يقول : لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة - أو قال : ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير - ونحو هذا .
وكان يقول في سجوده ، وهو محبوس : اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، ما شاء الله .
وقال مرة : المحبوس من حبس قلبه عن ربه ، و المأسور من أسره هواه .
ولما دخل إلى القلعة ، وسار داخل سوارها نظر إليه وقال : ) فضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ( ([5])
قال شيخنا : وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشاً منه قط ، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا ، وأشرحهم صدرا ، وأقواهم قلبا ، تلوح نضرة النعيم على وجهه . وكنا إذا اشتد بنا الخوف و ساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض : أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ، ونسمع كلامه ، فيذهب عنا ذلك كله ،وينقلب إنشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة . فسبحان ما شهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل ،فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها ، والمسابقة إليها
مصنفاته :
وأما تصانيفه رحمه الله :فهي أشهر من أن تذكر ، وأعرف من أن تنكر . سارت مسير الشمس في الأقطار ، وامتلأت بها البلاد والأمصار . قد جاوزت حد الكثرة ، فلا يمكن أحد حصرها ، ولا يتسع هذا المكان لعد المعروف منها ولا ذكرها .
ولنذكر نبذه من أسماء أعيان المصنفات الكبار : كتاب " الإيمان " مجلد ، كتاب " الاستقامة " مجلدان " جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية " أربع مجلدات كتاب " تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية " في ست مجلدات كبار ، كبار " المحنة المصرية " مجلدان " المسائل الاسكندرانية " مجلد " الفتاوى المصرية " سبع مجلدات .
وكل هذه التصانيف ما عدا كتاب " الإيمان " كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين صنفها في السجن . وكتب معها أكثر من مائة لفة ورق أيضاً ، كتاب " درء تعارض العقل والنقل " أربع مجلدات كبار . والجواب عما أورده للشيخ كمال الدين بن الشريشي على هذا الكتاب ، نحو مجلد كتاب . " منهاج السنة النبوية في نقص كلام الشيعة والقدرية " أربع مجلدات " الجواب الصحيح لمن بدل كلام المسيح " مجلدان " شرح أول المحصول للرازي " مجلد " شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي " مجلدان " الرد على المنطق " مجلد كبير " الرد على البكري في مسألة الاستغاثة " مجلد " الرد على أهل كسروان الروافض " مجلدان " الصفدية " ، " جواب من قال : إن معجزات الأنبياء قوي نفسانية " مجلد " الهلدونية " مجلد " شرح عقيدة الأصبهاني " مجلد " شرح العمدة " للشيخ موفق الدين ، كتب منه نحو أربع مجلدات " تعليقه على المحرر " في الفقه لجده عدة مجلدات " الصارم المسلول على شاتم الرسول مجلد ، | بيان الدليل على بطلان التحليل " مجلد " اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم " مجلد " التحرير في مسألة حفير " مجلد في مسألة من القسمة ، كتبها اعتراضاً على الخوى في حادثة حكم فيها " الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق " ثلاث مجلدات ، كتاب " تحقيق الفرقان بين التطليق والإيمان " مجلد كبير " الرد على الأحنافي في مسألة الزيارة "مجلد . وأما القواعد المتوسطة و الصغار وأجوبة الفتاوى : فلا يمكن الإحاطة بها ، لكثر وانتشار وتفرقها . ومن أشهرها " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " مجلد لطيف " الفرقان بين الحق والبطلان مجلد لطيف " الفرقان بين الطلاق والإيمان " مجلد لطيف " السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية " مجلد لطيف " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " مجلد لطيف .
ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه :
اختار ارتفاع الحدث بالمياه المتعصرة ، كماء الورد ونحوه ، واختار جواز المسح على النعلين ، والقدمين ، وكل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخر فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين .
واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة ، كالمسافر علي البريد ونحوه ، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد و يتوقف مع إمكان النزع وتيسره .
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها .
واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حقه غير المعذور ، كمن أخر الصلاة عمداً حتى تضايق وقتها . وكذا من خشي فوات الجمعة و العيدين وهو محدث . فأما من استيقظ أو ذكر في أخر وقت الصلاة : فإنه يتطهر بالماء ويصلي ، لأن الوقت متسع في حقه
واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت ، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره : أنها تيمم وتصلي .
واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره ، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين ، ولا لسن الإياس من الحيض وأن ذلك راجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها .
واحتار أن تارك الصلاة عمداً : لا يجب عليه القضاء و لا يشرع له . بل يكثر من النوافل . وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله ، وأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة
ذكر وفاته
مكث الشيخ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين ، ثم مرض بضعه وعشرين يوماً ، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه ولم يفجأهم إلا موته .
وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة .
وذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع ، وتكلم به الحرس على الأبراج ، فتسامع الناس بذلك ، وبعضهم أعلم به في منامه ، وأصبح الناس ، واجتمعوا حول القلعة حتى أهل الغوطة والمرج ، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً ، ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أول النهار . وفتح باب القلعة .
وكان نائب السلطنة غائباً عن البلد ، فجاء الصاحب إلى نائب القلعة ، فعزاه به وجلس عنده ، واجتمع عند الشيخ في القلعة خلف كثير من أصحابه ، يبكون ويثنون ، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن : أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمه ، و شرعا في الحادية والثمانين ، فانتهيا إلى قوله تعالى ) إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( . ([6])
فشرع حينئذ الشيخان الصالحان : عبد الله بن المحب الصالحي ، والزرعي الضرير - وكان الشيخ يحب قراءتهما - فابتدأ من سورة الرحمن حتى ختما القرآن . وخرج الرجال ودخل النساء من أقارب الشيخ ، فشاهدوه ثم خرجوا ، واقتصروا على من يغسله ، و يساعد على تغسليه ، وكانوا جماعة من أكابر الصالحين وأهل العلم ، كالمزي وغيره ، لم يفرغ من غسله حتى امتلأت القلعة بالرجال وما حولها إلى الجامع ، فصلى عليه بدركات القلعة : الزاهد القدوة محمد بن تمام . وضج الناس حينئذ بالبكاء و الثناء ، و بالدعاء و الترحم .
وأخرج الشيخ إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو نحوها . وكان قد امتلأ الجامع و صحنه ، و الكلاسة ، و باب البريد ، وباب الساعات إلى الميادين و الفوارة . وكان الجمع أعظم من جمع الجمعة ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز ، مما يلي المقصورة ، و الجند يحفظون الجنازة من الزحام ، وجلس الناس على غير صفوف ، بل مرصوصين ، لا يتمكن أحد من الجلوس و السجود إلا بكلفة . وكثر الناس كثرة لا توصف .
فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة على السدة ، بخلاف العادة ، وصلوا الظهر ، ثم صلوا على الشيخ . وكان الإمام نائب الحطابة علاء الدين ابن الخراط لغيبة القزويني بالديار المصرية ، ثم ساروا به ، والناس في بكاء و دعاء و ثناء و تهليل وتأسف ، و النساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين و يبكين أيضاً . وكان يوما مشهوداً ، لم يعهد بدمشق مثله ، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا القليل من الضعفاء والمخدرات ([7]) ، وصرخ صارخ : هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة ، فبكى الناس بكاء كثيراً عند ذلك .
وأخرج من باب البريد ، و اشتد الزحام ، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم ، وصار النعش على الرءوس ، يتقدم تارة ، و يتأخر أخرى . وخرج الناس من أبواب الجامع كلها وهي مزدحمة . ثم من أبواب المدينة كلها ، لكن كان المعظم من باب الفرج ، ومنه خرجت الجنازة ، و باب الفراديس ، وباب النصر ، و باب الجابية ، و عظم الأمر بسوق الخيل .
وتقدم في الصلاة عليه هناك : أخوه زين الدين عبد الرحمن و دفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية ، وحرز الرجال : بستين ألفاً وأكثر ، إلى مائتي ألف ، و النساء بخمسة عشر ألفاً ، وطهر بذلك قول الإمام أحمد " بيننا و بين أهل البيع يوم الجنائز " .
وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة ، وتردد الناس إلى الزيارة قبره أياما كثيرة ، ليلا ونهرا ، و رئيت له منامات كثيرة صالحة ، ورثاه خلف كثير من العلماء و الشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى ، وأقطار متباعدة ، وتأسف المسلمون لفقده . t ورحمه ، و غفر له .
وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة و البعيدة ، حتى في اليمن و الصين . وأخبر المسافرون : أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة " الصلاة على ترجمان القرآن " .
وقد أفرد الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي له ترجمة في مجلده ، وكذلك أبو حفص عمر بن على البزار البغدادي في كراريس . و إنما ذكرناها هنا على وجه الاقتصار ما يليق بتراجم هذا الكتاب .
وقد حدث الشيخ كثيرا . و سمع منه خلف من الحفاظ والأئمة من الحديث ، ومن تصانيفه ، وخرج له ابن الواني أربعين حديثاً حدث بها .
بداية المحنة
برواية تلميذه ابن عبد الهادى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . و لا ظهير و لا معين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى الخلق أجمعين . صلى الله عليه و على آله و سلم و على سائر عباد الله الصالحين .
أما بعد . فقد سئلت غير مرة ، أن أكتب ما حضرنى ذكره مما جري في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة ، في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبة أمير البلاد لما سعى إليه قوم من الجهمية ، و الاتحادية ، و الرافضة ، و غيرهم : من ذوي الأحقاد ، فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة : قضاة المذاهب الأربعة ، و غيرهم من نوابهم و المفتين ، و المشايخ : ممن له حرمة و به اعتداد . و هو لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد . وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس و سبعمائة .
فقال لي : هذا المجلس عقد لك . فقد ورد مرسوم السلطان : أن أسألك عن اعتقادك ، و عما كتبت به إلى الديار المصرية ، من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد .
وأظنه قال : وأن أجمع القضاة و الفقهاء و تتباحثون في ذلك .
فقلت : أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ، و لا عمن هو أكبر مني ، بل يؤخذ عن الله ورسوله . و ما أجمع عليه سلف الأمة . فما كان في القرآن وجب اعتقاده . وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، مثل صحيح البخاري و مسلم .
وأما الكتب ، فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك و لكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية و غيرهم .
وكان قد بلغني أنه زور علي كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ دار السلطان ، يتضمن ذكر عقيدة محرفة . ولم أعلم بحقيقته . ولكن علمت أن هذا مكذوب . و كان يرد على من مصر و غيرها من يسألني مسائل في الاعتقاد أو غيره ، فأجيبه بالكتاب و السنة . و ما كان عليه سلف الأمة .
فقال : نريد أن نكتب لنا عقيدتك .
فقلت : اكتبوا .
فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب .
و كتبت له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات ، و القدر ، و مسائل الإيمان ، و الوعيد ، و الإمامة ، و التفضيل .
هو أن اعتقاد أهل السنة و الجماعة : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، و بما و صفه به رسوله . من غير تحريف ، و لا تعطيل ، و لا تكييف ، و لا تمثيل . و أن القرآن كلام الله ، غير مخلوق . منه بدأ و إليه يعود . و الإيمان بأن الله خالف كل شيء من أفعال العباد و غيرها . وأنه ما شاء الله كان ، و ما لم يشأ لم يكن . و أنه أمر بالطاعة ورضيها و أحبها . و نهى عن المعصية و كرهها . و العبد فاعل حقيقة . و الله خالق فعله . وأن الإيمان و الدين قول و عمل يزيد وينقص . و أن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بالذنوب . ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحداً ، وأن الخلفاء بعد رسول الله r : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي t وأن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة ومن قدم علياً علي عثمان . فقد أزري بالمهاجرين و الأنصار .
وذكرت هذا و نحوه . فإني الآن قد بعد عهدي . و لم أحفظ لفظ ما أمليته إذ ذاك ثم قلت للأمير و الحاضرين : أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي ، كما قد كذبوا علي غير مرة . وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون : كتم بعضه ، أو داهن وداري . فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين ، قبل مجئ التترى إلى الشام .
قلت : قبل حضورها كلاما قد بعد عهدي به . وغضبت شديداً ، لكني أذكر أني قلت:
أنا أعلم أن أقوماً كذبوا على . و قالوا للسلطان أشياء . و تكلمت بلام احتجت إليه . مثل أن قلت :
من قام بالإسلام في أوقات الحاجة غيري ؟ ومن الذي أوضح دلائله ، و بينه ، وجاهد أعداءه ، وأقامه لما مال ، حين تخلي عنه كل أحد ، فلا أحد ينطق بحجته ، ولا أحد يجاهد عنه ، وقمت مظهراً لحجته ، مجاهداً عنه ، مرغباً فيه ؟
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في فكيف يصنعون بغيري ؟
ولو أن يهودياً طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه ، وأنا قد أعفو عن حقي ، و قد لا أعفو . بل قد أطلب الإنصاف منه . وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليحاققوا على افترائهم .
وقلت كلاماً أطول من هذا ، من هذا الجنس . لكن بعد عهدي به
فأشار الأمير إلى كاتب الدرج : محي الدين ، أن يكتب ذلك .
وقلت أيضاً : كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه .
وما أدري ، هل قلت هذا قبل حضورها . أو بعدها ؟
لكنني قلت أيضاً : بعد حضورها و قراءتها ، ماذكرت فيها فصلا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة . وكل خلاف لطائفة من الطوائف .
ثم أرسلت من أحضرها ، و معها كراريس بخطي من المنزل . فحضرت العقيدة الواسطية .
وقلت لهم : هذه كان سبب كتابتها : أنه قدم من أرض واسط بعض قضاة نواحيها : شيخ يقال له رضي الدين الواسطى . قدم علينا حاجاً . وكان من أهل الخير والدين . وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر من غلبه الجهل و الظلم ، ودروس الدين و العلم . و سألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته .
فاستعفيت من ذلك . وقلت : قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة.
فألح في السؤال . وقال : ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت .
فكتبت له هذه القيدة . وأنا قاعد بعد العصر .
وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر و العراق و غيرها .
فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا - لرفع الريبة - و أعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين .
فقرأها على الحاضرين حرفاً حرفاً ، و الجماعة الحاضرون يسمعونها . و يورد المورد منهم ما شاء . و يعارض فيما شاء . والأمير أيضاً : يسأل عن مواضع فيها .
وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف و الهوى : ما قد علم الناس بعضه . وبعضه بسبب الاعتقاد ، و بعضه بغير ذلك .
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام و المناظرات في هذه المجالس . فإنه كثير لا ينضبط .
لكن أكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك .
ومع أنه كان يجري رفع أصوات و لغط لا ينضبط . فكان مما اعترض عليه بعضهم محمد r : من غير تحريف و لا تعطيل ، و لا تكييف ولا تمثيل "
فقال : ما المراد بالتحريف و التعطيل ؟
ومقصوده : أن هذا ينفي التأويل الذي يثبته أهل التأويل ، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره ، إما وجوبا وإما جوازا .
فقلت : تحريف الكلام عن مواضعه ، كما دفعه الله في كتابه ، و هو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى ) وكلم الله موسى تكليما ( أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً .
ومثل تأويلات القرامطة و الباطنية و غيرهم : من الجهمية و الرافضة و القدرية ، وغيرهم . فسكت ، و في نفسه ما فيها .
وكرت في غير هذا المجلس : أني عدلت عن لفظ " التأويل " إلى لفظ " التحريف " لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه . وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب و السنة . فنفيت ما ذمة . وأنا أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات . لأنه لفظ له عدة معان . كما بينته في موضعه من القواعد فإن معنى لفظ " التأويل " في كتاب الله غير معنى لفظ " التأويل " في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول و الفقه ، و غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير و السلف . فلم أنف ما نقوم الحجة على صحته إذ ما قامت الحجة على صحته ، وهو منقول عن السلف ، فليس من التحريف .
وقلت له أيضاً : ذكرت في النفي " التمثيل " و لم أذكر " التشبيه " لأن " التمثيل " نفاه الله بنص كتابه حيث قال : ( ليس كمثله شيء ) و قال : ( هل تعلم له سميا ) فكان أحب إلى من لفظ ليس في كتاب الله ، ولا في سنة رسول الله r . وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح ، كما قد معنى فاسد .
ولما ذكرت " أنهم لا ينفقون عنه ما وصف به نفسه ، و لا يحرفون الكلم عن جعل الحاضرين يمتعض من ذلك ، لاستشعاره ما في ذلك من الرد لما هو عليه و لكن لم يتوجه له ما يقوله .
وأراد أن يدور علي بالأسئلة التي أعلمها ، فلم يتمكن لعلمه بالجواب .
ولما ذكرت آية الكرسى ، أظن سأل الأمير عن قولنا " لا يقربه شيطان حتى يصبح "
فذكرت له حديث أبي هريرة t في الذي كان يسرق صدقة الفطر وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه .
وأخذوا يذكرون نفي التشبيه و التجسيم و يطنبون في هذا و يعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك .
فقلت قولي " من غير تكييف ، ولا تمثيل " ينفي كل باطل و إنما أخذت هذين الاسمين . لأن " التكييف " مأثور نفيه عن السلف . كما قال ربيعة ، ومالك و ابن عيينة و غيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول " الاستواء معلوم ، و الكيف مجهول والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة "
فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا . فنفيت ذلك ، اتباعاً لسلف الأمة ، وهو أيضاً منفى بالنص . فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف و حقيقة صفاته . وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التاويل . و المعنى : و الفرق بين علمنا بمعنى الكلام . و بين علمنا بتأويله .
وكذلك " التمثيل " ينفي بالنص والإجماع القديم ، مع دلالة على نفيه . ونفى التكييف . إذ كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر .
وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف . و هو : " إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها ، مع نفي الكيفية ، و التشبيه عنها ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذي فيه حذوه ، و يتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف . فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف "
فقال أحد كبراء المخالفين : فحينئذ يجوز أن يقال : هو جسم ، لا كالأجسام .
فقلت له ، أنا و بعض الفضلاء الحاضرين و المعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفى عنا ما يقوله ، فجعل يزيد في المبالغة في نفي التشبيه و التجسيم .
فقلت : قد ذكر فيها في غير موضع " من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل "
وقلت في صدرها : " ومن الإيمان بالله . الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ، و بما وصفه به رسوله محمد r ، من تحريف و لا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل " .
ثم قلت : " وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك " .
إلى أن قلت : " إلى أمثال هذه الأحاديث الصحاح التي يخبر فيها رسول الله r بما يخبر به . فإن الفرقة الناجية أهل السنة و الجماعة يؤمنون بذلك ، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه ، من تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، بل هم الوسط في فرق الأمة ، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم ، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية ، وأهل التمثيل المشبهة "
ولما رأى هذا الحاكم العدل تمالؤهم وتعصبهم . ورأى قلة المعاون منهم و الغاصر ، وخافهم قال : أنت قد صنفت اعتقاد الإمام أحمد . فنقول : هذا اعتقاد أحمد ؟
يعنى والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه . فإن هذا مذهب متبوع .
وغرضه بذلك : قطع مخاصمة الخصوم
فقلت : ما جمعت إلا عقدة السلف الصالح جميعهم ، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا ، و الإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي r . ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول r لم نقبله . و هذه عقيدة محمد r .
وقلت مرات : قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين . فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي r ، حيث قال : " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك . وعلى أن آتى بنقول جميع الطوائف من القرون الثلاثة توافق ما ذكرته : من الخفية ، و المالكية ، و الشافعية ، و الحنبلية ، والأشعرية والصوفية ، وأهل الحديث ، وغيرهم .
وقلت أيضاً ، في غير هذا المجلس : الإمام أحمد ، t ، لما انتهى إليه من السنة و نصوص رسول الله r أكثر مما انتهى إلى غيره ، وابتلى بالمحنة و الرد على أهل البدع أكثر من غيره كان كلامه وعمله في هذا الباب أكثر من غيره . فصار إماماً في السنة أظهر من غيره . وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء ، قال : المذهب لمالك و الشافعي ، و الظهور لأحمد بن حنبل .
يعنى أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام ، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم و البيان ، وإظهار الحق ، و دفع الباطل ما ليس لبعض .
ولما جاء حديث أبي سعيد المتفق عليه في الصحيحين عن النبي r : " يقول لله يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك ، و سعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً إلى النار …" الحديث .
سألهم الأمير : هل هذا الحديث صحيح ؟
فقلت : نعم ، هو في الصحيحين . ولم يخالفوا في ذلك . واحتاج المنازع إلى الإقرار به .
وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف و الصوت . لأن ذلك طلب منه ز
فقلت : هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه : أن صوت القارئين ومداد المصاحف : قديم أزلي - كذب مفترى . لم يقل ذلك أحمد ، ولا أحد من علماء المسلمين .
وأخرجت كراساً كان قد أحضر مع العقيدة ، وفيه ما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الإمام أحمد . و ما جمعه صاحبه أبو بكر المروزي من كلام أحمد ، وكلام أئمة زمانه في : " أن من قال : لفظي بالقرآن مخلوق . فهو جهمي . ومن قال : غير مخلوق . فهو مبتدع "
قلت : فكيف بمن يقول لفظي قديم ؟ فكيف بمن يقول : صوتي غير مخلوق ؟ فكيف بمن يقول : صوتي قديم ؟
وأحضرت جواب مسألة كنت سئلت قديماً عنها . فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحرف و الصوت ، ومسألة الظاهر في العرش ، وقلت : هذا جوابى .
وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ، ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم .
وكانوا قد ظنوا أبى إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله ، حصل مقصودهم من الشناعة ، وإن أجبت بما يقولونه هم . حصل مقصودهم من الموافقة .
فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة ، وليس هو ما يقولونه هم ، ولا ما ينقلونه عن أهل السنة ، إذ يقوله بعض الجهال ؛ بهتوا لذلك .
وفيه : " إن القرآن كلام الله حروفه و معانيه ، ليس القرآن اسماً لمجرد الحروف ، ولا لمجرد المعاني " .
و لما جاءت مسألة القرآن ، فقلت : " ومن الإيمان به : الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ و إليه يعود " - نازع بعضهم في كونه منه بدأ و إليه يعود . و طلبوا تفسير ذلك .
فقلت : أما هذا القول فهو المأثور الثابت عن السلف ، مثل ما نقله عمرو بن دينار قال : " أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون : الله الخالق وما سواه مخلوق ، إلا القرآن ؛ فإنه كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود " ، وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى r والصحابة و التابعين .
و أما معناه : فإن قوله " منه بدأ " أي هو المتكلم به ، وهو الذي أنزله من لدنه ، ليس هو كما تقوله الجهمية : إنه خلق في الهواء أو غيره ؛ أو بدأ من عند غيره .
وأما " إليه يعود " فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف و الدور ، فلا يبقى في الصدور ، منه كلمة ، ولا في المصاحف منه حرف .
ووافق على ذلك غالب الحاضرين ، و سكت المنازعون .
وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس ، بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادر بالله التي فيها : " إن القرآن كلام الله ، خرج منه " نتوقف في هذا اللفظ .
فقلت : هكذا قال النبي r : " و ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج عنه " يعنى القرآن .
وقال خباب بن الأرت " يا هنتاه تقرب إلى بما استطعت فلن نتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه " ؟!
وقال أبو بكر الصديق t - لما قرئ عليه قرآن مسيلمة الكذاب فقال : " إن هذا كلام لم يخرج من إل " يعنى رب .
ومما فيها : " ومن الإيمان به : الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل ، غير مخلوق ، منه بدأ و إليه يعود . وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد r هو كلام الله حقيقة ، لا كلام غيره . ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية ، أو عبارة عن كلام الله ، بل إذا قرأ القرآن ، أو كتبوه في المصاحف ، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا . لا إلى من قاله مبلغا مؤدباً " .
فامتعض بعضهم من كونه إثبات كلام الله حقيقة ، بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة . ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه ، وهذا لا يصلح نفيه ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم ، و شعر الشعراء المضاف إليهم ، هو كلامهم حقيقة . فلا يكون نسبة القرآن إلى الله بأقل من ذلك .
ولما ذكر فيها : " أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا ، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدباً " . استحسنوا هذا الكلام و عظموه . وأخذ أحد كبراء الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام ، وأنه أزال عنه الشبهات ، و يذكر أشياء من هذا النمط .
ولما جاء ذكر من الإيمان باليوم الآخر ، و تفصيله و نظمه استحسنوا ذلك و عظموه .
وكذلك لما جاء الإيمان بالقدر ، و أنه على درجتين ، إلى غير ذلك مما فيه من القواعد الجليلة .
وكذلك لما جاء الكلام في الفاسق الملى ، و في الإيمان .
لكن اعترضوا على ذلك بما سأذكره
وكان مجموع ما اعترض به المنازعون المعاندون - بعد انقضاء قراءة جميعا ، و البحث فيها - أربعة أسئلة :
السؤال الأول : قولنا : " ومن أصول الفرقة الناجية : أن الإيمان و الدين : قول ، وعمل ، يزيد و ينقص . قول القلب و اللسان ، و عمل القلب و اللسان و الجوارح " .
قالوا : إذا قيل : إن هذا من أصول الفرقة الناجية ، خارج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك ، مثل أصحاب المتكلمين الذين يقولون : إن الإيمان هو التصديق ، ومن يقول : إن الإيمان هو التصديق والإقرار . و إذا لم يكونوا ناجين . لزم أن يكونوا هالكين .
وأما الأسئلة الثلاثة ، وهي التي كانت عمدتهم ، فأوردوها على قولنا : " وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله : الإيمان بما أخبر الله به في كتابه ، و تواتر عن رسوله r ، وأجمع عليه سلف الأمة ؛ ومن أنه سبحانه فوق سموانه ، وأنه على عرشه ، علي على خلقه . هو معهم أينما كانوا ، يعلم ما هم عاملون ، كما جمع بين ذلك في قوله :
) هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم و الله بما تعملون بصير ( ([8])
" و ليس معنى قوله ( وهو معكم ) أنه مختلط بالخلق . فإن هذا لا توجبه اللغة ، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة و خلاف ما فطر الله عليه الخلق ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته . و هو موضوع في السماء . وهو مع المسافر و غير المسافر أينما كان.
وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته " .
" وكل هذا الكلام الذي ذكره الله : من أنه فوق العرش . وأنه معنا : حق على حقيقته . لا يحتاج إلى تحريف ، و لكن يصان عن الظنون الكاذبة " .
والسؤال الأول قال بعضهم : نفر باللفظ الوارد ، مثل حديث العباس t حديث الأوعال " والله فوق العرش " ولا نقول : فوق السماوات . ولا نقول : على العرش .
وقالوا أيضاً ، نقول : ) الرحمن على العرش استوى ( ولا نقول : الله على العرش استوى . ولا نقول : مستو .
وأعاد هذا المعنى مراراً - أي أن اللفظ الذي ورد ، يقال اللفظ بعينه ، ولا يبدل بلفظ يرادفه ، ولا يفهم له معنى أصلا ، ولا يقال : إنه يدل على صفة الله أصلا .
وانبسط الكلام في هذا المجلس الثاني ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
والسؤال الثاني : قالوا التشبيه بالقمر : فيه تشبيه كون الله في السماء يكون القمر في السماء .
والسؤال الثالث : قالوا : قولك : " حق على حقيقته " الحقيقة هي المعنى اللغوي . ولا يفهم من الحقيقة إلا استواء الأجسام وفوقيتها . ولم تضع العرب ذلك إلا لها ، فإثبات الحقيقة : هو محض التجسيم ، ونفي التجسيم مع هذا تناقض ، أو مصانعة .
فأجبتهم عن الأسئلة : بأن قولي : " اعتقاد الفرقة الناجية " هي الفرقة التي وصفها النبي r بالنجاة ، حيث قال : " تفترق أمتي على ثلاث و سبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " .
فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي r وأصحابه وهم ومن اتبعهم : الفرقة الناجية .
فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال : " الإيمان يزيد و ينقص " .
وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة t بالأسانيد الثابتة . لفظه أو معناه ، وإذا خالفهم من بعدهم ، لم يضرني ذلك .
ثم قلت لهم : وليس كل مخالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا . فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئا ، يغفر الله له خطأه . وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة . وقد يكون من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته . وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول ، و التائب ، وذو الحسنات الماحية و المغفور له وغير ذلك . فهذا أولى . بل موجب هذا الكلام : أن من اعتقد ذلك بجا في هذا الاعتقاد ، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا ، وقد لا يكون ناجيا . كما قال : " من صمت نجا " .
وأما السؤال الثاني : فأجبتهم ، أولا : بأن كل لفظ قلته ، فهو مأثور عن النبي r ، مثل لفظ " فوق السماوات " و لفظ " على العرش " و " فوق العرش " .
وقلت : اكتبوا الجواب ، فأخذ الكاتب في كتابته .
ثم قال بعض الجماعة : قد طال المجلس اليوم . فيؤخر هذا إلى مجلس آخر .
فتكتبون أنتم الجواب . وتحضرونه في ذلك المجلس .
وأشار بعض الموافقين : بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب ، لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم .
وكأن الخصوم كان لهم غرض في تأخير كتابة الجواب ، ليستعدوا لأنفسهم و يطالعوا ، و يحضروا من غاب من أصحابهم ، و يتأملوا العقيدة فيما بينهم ليتمكنوا من الطعن و الاعتراض .
فحصل الاتفاق على أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة .
وقمنا على ذلك .
وقد أظهر الله من قيام و بيان المحجة ما أعز الله به السنة و الجماعة ، و أرغم به أهل البدعة و الضلالة ؛ و في نفوس كثير من الناس أمور لما يحدث في المجلس الثاني .
وأخذوا في تلك الأيام يتأملونها ، و يتأملون ما أجيب به في مسائل تتعلق بالاعتقاد ، مثل المسألة الحموية في الاستواء و الصفات الخبرية و غيرها .
فصل
فلما كان في المجلس الثاني ، يوم الجمعة ، بعد الصلاة ، ثاني عشر رجب - وقد أحضروا أكبر شيوخهم ممن لم يكن حاضراً ذلك اليوم - و بحثوا فيما بينهم ، و اتفقوا و تواطأوا ، وحضروا بقوة و استعداد ، غير ما كانوا عليه لأن المجلس الأول أتاهم بغتة وإن كان أيضاً بغتة للمخاطب الذي هو المسئول و المجيب و المناظر .
فلما اجتمعنا - وقد أحضرت ما كتبته من الجواب على أسئلتهم المتقدمة التي طلب تأخيره إلى هذا اليوم - حمدت الله بخطبة الحاجة ، حطبة ابن مسعود t .
ثم قلت : إن الله أمرنا بالجماعة و الائتلاف ، و نهانا عن الفرقة و الاختلاف ، و قال لنا في القرآن
وربنا واحد ، وكتابنا واحد ، و نبينا واحد ، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف . وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين ، و هو متفق عليه بين السلف .
فإن وافق الجماعة فالحمد لله ، و إلا فمن خالفني بعد ذلك ، كشفت له الأسرار ، و هتكت الأستار ، و بينت المذاهب الفاسدة ، التي أفسدت الملل و الدول . وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد ، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس . فإن المسلم كلاما و للحرب كلاما .
وقلت : لا شك أن الناس يتنازعون ، فيقول هذا : أنا حنبلي ، و يقول هذا : أنا أشعري ، و يجري بينهم تفرق واختلاف ، على أمور لا يعرف حقيقتها .
وأنا قد أحضرت ما بين اتفاق المذاهب فيما ذكرته ، وأحضرت كتاب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري . تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر .
وقلت : لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل ها . وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتاب الإبانة .
فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة ، سأل الأمير عن معنى المعتزلة ؟
فقلت : كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملي . وهو أول اختلاف حدث في الملة ، هل هو كافر ، أو مؤمن ؟ فقالت الخوارج : إنه كافر و قالت الجماعة : إنه مؤمن .
فقالت طائفة : نقول : هو فاسق ، لا كافر ، ولا مؤمن . ننزله منزلة بين منزلتين ، وخلدوه في النار ، واعتزوا حلقه الحسن البصري وأصحابه ، فسموا معتزلة .
فقال الشيخ الكبير بحبه ورد : ليس كما قلت ، و لكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون : مسألة الكلام ، و سمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك ، و كان أول من قالها : عمرو بن عبيد ، ثم خلفه بعد موته عطاء بن واصل .
هكذا قال : وذكر نحواً من هذا .
فغضت عليه . وقلت : أخطأت . وهذا كذب مخالف للإجماع .
وقلت له : لا أدب ولا فضيلة ، لا تأدبت معي في الخطاب ، ولا أصبت في الجواب .
ثم قلت : الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلانة المأمون ، و بعدها في أواخر المائة الثانية . وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير ، في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري ، في أوائل المائة الثانية . ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ، ولا تنازعوا فيها . وإنما أول بدعتهم : تكلمهم في مسائل الأحكام و الأسماء و الوعيد .
فقال : هذا ذكره الشهر ستاني في كتاب الملل و النحل .
فقلت : الشهر ستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين : لم سموا متكلمين ، لم يذكره في اسم المعتزلة ، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة .
وأنكر الحاضرون عليه .
وقال : غلطت .
وقلت في ضمن كلامي : أنا أعلم كل بدءة حدثت في الإسلام ، وأول من ابتدعها . وما كان سبب ابتداعها .
وأيضاً : فما ذكره الشهر ستاني لي بصحيح في اسم المتكلمين فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا اسم قبل تنازعهم في مسألة الكلام وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء : إنه متكلم ، ويصفونه بالكلام و لم يكن الناس اختفوا في مسألة الكلام .
وقلت أنا وغيري : إنما هو واصل بن عطاء .
قلت : وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد ، وإنما كان قريبه .
وقد روي أن واصلاً تكلم مرة بكلام . فقال عمرو بن عبيد : لو بعث نبي ما كان يتكلم بأحسن من هذا ، وفصاحته مشهورة ، حتى قيل : إنه كان ألئغ ، فكان يحترز عن الراء حتى قيل له : أمر الأمير أن يحفر بئر في قارعة الطريق . فقال : أو عز القائد ، أن يقلب قليب في الجادة .
قال الشيخ المتقدم فيهم : لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر ، ومن أكبر أئمة الإسلام ، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء .
فقلت : أما هذا فحق ، وليس هذا من خصائص أحمد ، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام ، وهو منهم برئ . قد انتسب إلى مالك أناس ، هو برئ منهم ، وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناس هو برئ منهم ، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو برئ منهم . وقد انتسب إلى على بن أبي طالب t أناس هو برئ منهم . و نبينا r قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية ، و غيرهم من أصناف الملحدة و المنافقين من هو برئ منهم .
وذكر في كلامه : أنه انتسب إلى أحمد أناس من الحشوية و المشبهة . ونحو هذا الكلام .
فقلت : المشبهة و المجسمة في غير أصحاب أحمد أكثر منهم فيهم ، هؤلاء أصناف الأكراد ، و كلهم شافعية ، و فيهم من التشبيه و التجسيم ما لا يوجد في صنف آخر . وأهل جيلان ، فيهم شافعية وحنبلية .
قلت : وأما الحنبلية المحضة . فليس من ذلك ما في غيرهم .
وكان من تمام الجواب : أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية .
وتكلمت على لفظ الحشوية ، ما أدرى جواباً عن سؤال الأمير ، أو غيره ، أو عن غير جواب .
فقلت : هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة ، فإنهم يسمون الجماعة و السواد الأعظم : كما تسميهم الرافضة : الجمهور .
وحشو الناس : هم عموم الناس وجمهورهم ، وهم غير الأعيان المتميزين يقولون : هذا من حشو الناس . كما يقال : هذا من جمهورهم .
وأول من تكلم بهذا : عمرو بن عبيد ، وقال : كان عبد الله بن عمر حشويا . فالمعتزلة سموا الجماعة حشوا ، كما تسميهم الرافضة : الجمهور .
وقلت : - لا أدرى في المجلس الأول ، أو الثاني - أول من قال إن جسم ، هشام بن الحكم الرافضي .
وقلت لهذا الشيخ : من في أصحاب الإمام أحمد من الأعيان حشوي بالمعنى الذي تريده ؟ الأثرم ، أبو داود ، المروزي ، الخلال ، أبو بكر بن عبد العزيز ، أبو الحسن التميمي ، ابن حامد القاضي ، أبو يعلي ، أبو الخطاب ، ابن عقيل ؟
ورفعت صوتي وقلت : سمهم . قل لي : من هم ، من هم ؟
أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة ، وتندرس معالم الدين ؟ كما نقل هو وغيره عنهم . أنهم يقولون : إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ، ومداد الكاتبين ، وأن الصوت والمداد قديم أزلى ؟ من قال هذا ؟ وفي أي كتاب وجد هذا عنهم ؟ قل لي .
وكما نقل عنهم : أن الله لا يرى في الآخرة ، باللزوم الذي ادعاه ، والمقدمة التي نقلها عنهم ؟
وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ : من أنه كبير الجماعة و شيخهم ، وأن فيه من العقل والدين ، ما يستحق أن يعامل بموجبه .
وأمرت بقراءة العقيدة عليه ، فإنه لم يكن حاضراً في المجلس الأول ، وإنما أحضروه في الثاني ، انتصاراً به .
وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس ، أنه اجتمع به ، وقال له : أخبرني عن هذا المجلس ؟
فقال : ما لفلان ذنب ، ولا لي ، فإن الأمير سأل عن شيء . فأجابه عنه . فظننته سأل عن شيء آخر .
وقال : قلت لهم : مالكم على الرجل اعتراض ، فإنه نصر ترك التأويل ، وأنتم تنصرون قول التأويل ، وهما قولان للأشعري .
وقال : أنا أختار قول ترك التأويل . وأخرج وصيته التي أوصى بها . وفيها : قول ترك التأويل .
قال الحاكي لي : فقلت له : بلغني عنك أنك قلت ، في آخر المجلس ، لما أشهد الجماعة على أنفسهم بالموافقة : لا تكتبوا عني نفياً ولا إثباتاً . فلم ذاك ؟
فقال : لوجهين ، أحدهما : أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول : والثاني : لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي ، فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم ، فسكت عن الطائفتين .
وأمرت غير مرة أن تعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ ، فرأى بعض الجماعة أن ذلك يطول ، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال ، وأعظمه : لفظ " الحقيقة " فقرأوه عليه .
وذكر هو بحثاً حسناً ، يتعلق بدلالة اللفظ ، فحسنته ومدحته عليه .
وقلت : لا ريب أن الله حي حقيقة ، سميع حقيقة ، بصير حقيقة ، وهذا متفق عليه بين أهل السنة و الصفاتية ، من جميع الطوائف ، ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك ، فلا ريب أن الله موجود ، والمخلوق موجود ، ولفظ " الوجود " سواء كان مقولا عليهما بطريق الاشتراك اللفظي فقط ، أو بطريق التواطؤ ، المتضمن للاشتراك لفظاً ومعنى ، أو بالتشكيك ، الذي هو نوع من التواطؤ ، فعل كل قول : فالله موجود حقيقة . والمخلوق موجود حقيقة . ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق و المخلوق بطريق الحقيقة محذور .
ولم أرجح في ذلك المقام قولا من هذه الثلاثة على الآخر ، لأن غرضي يحصل على كل مقصود .
وكان مقصودى تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف ، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرته وأن أعيان المذاهب الأربعة ، والأشعرى ، وأكابر أصحابه على ما ذكرته .
فإنه قبل المجلس الثاني ، اجتمع بي من أكابر الشافعية ، والمنتسبين إلى الأشعرية ، و الحنفية ، وغيرهم ، ممن عظم خوفهم من هذا المجلس ، وخافوا انتصار الخصوم فيه ، و خافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة ، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته ، أو لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها - : لصارت فرقة ، ولصعب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم ، كما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم . فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك ، وقامت الحجة عليه ، وبان أنه مذهب السلف ، أمكنهم إظهار القول به ، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق .
حتى قال لي بعض الأكابر من الحنفية ، وقد اجتمع بي :
لو قلت : هذا مذهب أحمد حنبل ، و ثبت على ذلك ، لانقطع النزاع .
ومقصوده : أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبرع ، و يستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة .
فقلت : لا والله ، ليس لأحمد بن حنبل بهذا اختصاص ، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة ، وأئمة أهل الحديث .
وقلت أيضاً : هذا اعتقاد رسول الله r ، وكل لفظ ذكرته ، فأنا أذكر به آية أو حديثاً ، أو إجماعاً سلفياً ، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف ، من جميع طوائف المسلمين : اتباع الفقهاء الأربعة ، و المتكلمين ، وأهل الحديث ، و الصوفية .
وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية : لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف ، و قول أئمة أصحاب الشافعي ، وأذكر قول الأشعري ، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم . و لينتصرن كل شافعي ، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف . وأبين قول طائفة من أصحابه . فللأشعرية قولان ، ليس للأشعري قولان .
فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي يسمى بها المخلوق كلفظ " الوجود " الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب و الممكن ، على الأقوال الثلاثة ، تنازع كبيران : هل هو مقول بالاشتراك ، أو بالتواطؤ ؟ .
فقال أحدهما : هو متواطئ . وقال الآخر : هو مشترك . لئلا يلزم التركيب .
وقال هذا : قد ذكر فخر الدين : أن هذا النزاع مبني على أن وجوده . هل هو عين ماهيته ، أم لا ؟
فمن قال : إن وجود كل شيء عين ماهيته ، قال : إنه مقول بالاشتراك ، ومن قال : إن وجوده قدر زائد على ماهيته ، قال :إنه مقول بالتواطؤ .
فأخذ الأول يرجح قول من يقول : إن الوجود زائد على أن الماهية ، لينصر أنه مقول بالتواطؤ .
فقال الثاني : ليس مذهب الأشعري وأهل السنة : أن وجوده عين ماهيته فأنكر الأول ذلك .
فقلت : أما متكلمو أهل السنة ، فعندهم : أن وجود كل شيء عين ماهيته . وأما القول الآخر ، فهو قول المعتزلة : إن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته ، وكل منهما أصاب من وجه ، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطؤ ، كما قد قررته في غير الموضع .
وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين .
وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينها . فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب . فإنا وإن قلنا : إن وجود الشيء عين ماهيته ، لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى نظيره الاشتراك اللفظي فقط ، كما في جميع أسماء الأجناس . فإن اسم "السواد " مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطؤ . وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد ، إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما ، وهو المطلق الكلي ، لكنه لا يوجد مطلقاً كلياً بشرط الإطلاق إلا في الذهن ، ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في المخارج ، فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة ، وهي جمهور الأسماء الموجودة في اللغات . وهي أسماء الأجناس اللغوية ، وهو الاسم المطلق على الشيء و على كل ما أشبهه . سواء كان اسم عين ، وأو اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأصناف والأجناس والأنواع ، ونحو ذلك . وكلها أسماء متواطئة ، وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة .
وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ، ليطعن في بعضها فعرفت مقصوده .
فقلت : كأنك استعددت للطعن في حديث الأوعال . حديث العباس بن عبد المطلب ، وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم ، من قول البخاري في تاريخه : عبد الله بن عميرة ، لا يعرف له سماع من الأحنف .
فقلت : هذا الحديث - مع أنه رواه أهل السنن . كأبي داود ، و الترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم - فهو مروي من طريقين مشهورين . فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر .
فقال : أليس مداره على ابن عميرة ، وقد قال البخاري : لا يعرف له سماع عن الأحناف ؟ .
فقلت : قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي r .
قلت : والإثبات مقدم على النفي ، والبخاري إنما نفي معرفته لسماعه من الأحنف ، لم ينف معرفة الناس بهذا ، فإذا عرف غيره - كإمام الأئمة ابن خزيمة - الإسناد ، كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره ، وعدم معرفته ، ووافق الجماعة على ذلك .
وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه .
وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن في العقيدة ، ولكن لها تعلق بما أجبت به في مسائل ، ولها تعلق بما قد يقهمونه من العقيدة .
فأحضر بعض أكابرهم كتاب الأسماء و الصفات ، وللبيهقي فقال : هذا فيه تأويل الوجه عن السلف .
فقال : نعم . قد قال مجاهد و الشافعي : يعنى قبلة الله .
فقلت : نعم . هذا صحيح عن مجاهد ، والشافعي وغيرها . وهذا حق ، و ليست هذه الآية من آيات الصفات ، ومن عدها في الصفات فقد غلط ، كما فعل طائفة ، فإن سياق الكلام يدل على المراد ، حيث قال : ) ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ( والمشرق والمغرب : الجهات . والوجه : هو الجهة - يقال : أي وجه تريد ؟ - أي جهة . وأنا أريد هذا الوجه . أي هذه الجهة - كما قال تعالى : ) ولكل وجهة هو موليها ( ، و لهذا قال : ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( - أي تستقبلوا وتتوجهوا . والله أ‘لم .
****
قال ابن عبد الهادي :
هذا آخر ما علقه الشيخ فيما يتعلق بالمناظرة ، بحضرة نائب السلطان و القضاة ، و الفقهاء ، وغيرهم ، بالقصر .
كتاب السلطان بإرسال الشيخ إلى مصر
وفي يوم الاثنين خامس شهر رمضان من سنة خمس وسبعمائة وصل كتاب السلطان بالكشف عما كان وقع للشيخ تقي الدين ، في ولاية سيف الدين جاغان ، وفي ولاية القاضي إمام الدين وبإحضاره وإحضار القاضي نجم الدين بن صصري إلى الديار المصرية .
فطلب نائب السلطنة الشيخ وجماعة من الفقهاء ، وسألهم عن تلك الواقعة ، وقرئ عليهم المرسوم .
فأجاب كل منهم بما كان عنده من تلك القضية ، وكتبه عنهم صاحب الديوان محي الدين ، و القاضي نجم الدين إلى مصر على البريد ، و خرج مع الشيخ خلق كثير ، و بكوا وخافوا عليه من أعدائه .
وأخبرت : أن نائب السلطنة كان قد أشار على الشيخ بترك التوجه إلى مصر ، وأنه بكاتب في ذلك فامتنع من ذلك ، ولم يقبل وذكر أن في توجهه إلى مصر مصالح كثيرة .
وقرأت بخط بعض أصحاب الشيخ ، قال :
و لما توجه الشيخ في اليوم الذي توجه فيه من دمشق المحروسة ، كان يوماً مشهوداً ، غريب المثل ، في كثرة ازدحام الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قريب للجسورة - فيما بين دمشق و الكسوة - التي هي أول منزلة منها ، وهم ما بين باك وحزين ، ومتعجب ومتنزه ، ومزاحم متغال فيه . ودخل الشيخ مدينة غزة يوم السبت ، وعمل في جامعها مجلساً عظيما .
و في يوم الخميس الثاني و العشرين من رمضان وصل الشيخ و القاضي إلى القاهرة
وفي ثاني يوم بعد صلاة الجمعة ، جمع القضاة ، وأكابر الدولة بالقلعة لمحفل . وأراد عدلان خصما ، احتساباً . وادعى عليه القاضي ابن مخلوف المالكي أنه يقول :
إن الله فوق العرش حقيقة ، وإن الله يتكلم بحرف وصوت ، وسأل جوابه .
فأحذ الشيخ في حمد الله و الثناء عليه .
فقيل له : أجب . ما جئنا بك لتحطب .
فقال : ومن الحاكم في ؟
فقيل له : القاضي المالكي .
قال : كيف يحكم في و هو خصمي ؟
وغضب غضباً شديداً ، وانزعج .
فأقيم مرسما عليه . وحبس في برج أياما .
ثم نقل منه ليلة عيد الفطر إلى الحبس المعروف بالجب هو وأخواه : شرف الدين عبد الله ، وزين الدين عبد الرحمن .
ثم إن نائب السلطنة - سيف الدين سلارا - بعد أكثر من سنة وذلك ليلة عيد الفطر من سنة ست و سبعمائة أحضر القضاة الثلاثة : الشافعي ، و المالكي ، و الحنفي - و من الفقهاء : الباجي ، و الجزري ، و النمراوي . و تكلم في إخراج الشيخ من الحبس .
فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور ، ويلزم بالرجوع عن بعض الفقيدة .
فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك . فلم يجب إلى الحضور .
وتكرر الرسول إليه في ذلك مرات . وصمم على عدم الحضور .
فطال عليهم المجلس ، و انصرفوا عن غير شيء .
قال ابن عبد الهادي :
وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين ، أو إحدى و ثمانين ختمه انتهى في آخر ختمه إلى آخر اقتربت الساعة ) إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( ([13]) ، ثم كملت عليه بعد وفاته ، وهو مسجي .
كان كل يوم يقرأ ثلاثة أجزاء ، يختم في عشرة أيام . هكذا أخبراني أخوه زين الدين .
وكانت مدة مرضه بضعه وعشرين يوما ، وأكثر الناس ما علموا بمرضه ، فلم يفجأ الخلق إلا نعيه ، فاشتد التأسف عليه وكثر البكاء والحزن ، ودخل إليه أقاربه و أصحابه وازدحم الخلق على باب القلعة و الطرقات ، وامتلأ جامع دمشق و صلوا عليه ، وحمل على الرءوس . رحمه الله ورضي عنه .
محنة شيخ الإسلام
يرويها بنفسه – رحمه الله تعالى –
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله . ونشهد أن محمدا عبده ورسوله . r تسليما .
أما بعد
فقد وصلت ورقتك التي ذكرت فيها إخبارك الشيخ باجتماع الرسول بي ، وما أخبرته به من الكلام . وأن الشيخ قال :
أعلم أني - والله - قد عظم عندي كيف وقعت الصورة على هذا - إلى آخره ، وأنه قال : يجتمع بالشيخ ، و يتفق معه على ما يراه هو و يختاره ، إن يكن كما قلت أو غيره - فتسلم عليه ([14]) وتقول له : أنا ، هذه القضية ليس لي فيها غرض معين أصلاً ([15]) . ولست فيها واحداَ من المسلمين ، لي ما لهم وعلى ما عليهم ، وليس لي - ولله الحمد - حاجة إلى شيء معين يطلب من المخلوق ، ولا في ضرر يطلب زواله من المخلوق ، بل أنا في نعمة الله سابغة ، وحمة عظيمة ، أعجز عن شكرها .
ولكن عليّ أن أطبع الله ورسوله ، وأطيع أولى الأمر إذا أمروني بطاعة الله ، فإذا أمروني بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . هكذا دل عليه الكتاب و السنة ، واتفق عليه أئمة الأمة . قال الله تعالى :
) ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم . فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم والآخر. ذلك خير وأحسن تأويلا ( ([16])
وقد ثبت في الصحيح عن النبي r أنه قال :
" لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف " ([17]) وأن أصبر على جور الأئمة ، وأن لا أخرج عليهم في فتنة ؛ لما في الصحيحين عن ابن عباس قال : قال رسول الله r
" من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه . فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات ( إلا مات ) ميتة جاهلية " ([18]) .
ومأمور أيضاً - مع ذلك - أن أقول وأقوم بالحق حيثما كنت ، لا أخاف في الله لومة لائم ، كما أخرجا في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال
" بايعت رسول الله r علي السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا ، وأثرة ([19]) علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول - أو نقوم - بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم " ([20]) فبايعهم على هذه الأصول الثلاثة الجامعة ، وهي الطاعة في طاعة الله ، وإن كان الأمير ظالما ، وترك منازعة الأمر أهله ، والقيام بالحق بلا مخافة من الحق .
والله سبحانه قد أمر في كتابه - عند تنازع الأمة - بالرد إلى الله ورسوله ، لم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلا وقد قال الأئمة : إن أولى الأمر صنفان : العلماء والأمراء ، وهذا يدخل فيه مشايخ الدين وملوك المسلمين ، كل منهم يطاع فيما إليه من الأمر ، كما يطاع هؤلاء فيما يأمرون به من العبادات ، ويرجع إليهم في معاني القرآن والحديث والإخبار عن الله ، وكما يطاع هؤلاء في الجهاد ، وإقامة الحدود ونحو ذلك مما يباشرونه من الأفعال التي أمرهم الله بها .
وإذا اتفق ( المسلمون ) ([21]) على أمر فإجماعهم حجة قاطعة . فإن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة ([22]) ؛ وإن تنازعوا فالمرد إلى الكتاب والسنة . وهذه القضية : قد جري فيها ما جري ، مما ليس هذا موضع ذكره ، وكنت تبلغني بخطابك وكتابك من الشيخ ما تبلغني . وقد رأيت وسمعت موافقتي على كل ما فيه طاعة الله ورسوله ، وعدم التغاتي إلى الظالم لحظوظي ، أو مقابلة في يؤذيني ، ووتيقنت هذا مني . فما الذي يطلب من المسلم فوق هذا ؟
وأشرت بترك المحاقة ([23]) ولين الجانب وأنا مجيب إلى هذا كله . فجاء الفتاح ([24]) أولا ، فقال : يسلم عليك النائب . وقال : إلى متي يكون المقام في الحبس ؟ أما تخرج ؟ هل أنت مقيم على تلك الكلمة أم لا ؟ وعلمت أن الفتاح ليس في استقلاله بالرسالة مصلحة ، لأمور لا تخفى .
فقلت له : سلم على النائب وقل له : أنا ما أدري ما هذه الكلمة ؟ وإلى الساعة لم أدري ؟ على ( أي ) ([25]) شيء حبست ؟ ولا علمت ذنبي . وإن جواب هذه الرسالة لا يكون مع خدمتك ، لما يرسل من ثقافة ([26]) الذين يفهمون ويصدقون أربعة أمراء ، وليكون الكلام معهم مضبوطا عن الزيادة والنقصان . فأنا قد علمت ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب . فجاء بعد ذلك الفتاح ، ومعه شخص ، عرفته . لكن ذكر لي أنه يقال له : علاء الدين الطيبرسي . ورأيت الذين عرفوه أثنوا عليه بعد ذلك خيراً ، وذكروه بالحسنى ، ولكنه لم يقل ابتداء من الكلام ما يحتمل الجواب بالحسنى فلم يقل : الكلمة التي أنكرت : كيت وكيت و استفهم هل أنت مجيب إلى كيت وكيت ؟ ولو قال ما قال من الكذب على والكفر والمجادلة على الوجه الذي يقتضي الجواب بالحسنى لفعلك ذلك ؛ فإن الناس يعلمون أني من أطول الناس ، روحاً ، وصبراً على مر الكلام ، وأعظم الناس عدلا في المخاطبة لأقل الناس ، دع ولاة الأمور ، لكنة جاء مجئ المكره على أن أوافق إلى ما دعا إليه ، وأخرج درجا فيه من الكذب والظلم ، والدعاء إلى معصية الله ، والنهى عن طاعته : ما الله به عليم .
Komentar
Posting Komentar