فوائد في مناهج المتقدمين في التعامل مع السنة
تصحيحاً وتضعيفاً
د.عبدالرحمن عبدالكريم الزيد
رئيس قسم الشريعة بكلية الشريعة واللغة العربية في رأس الخيمة
أستاذ مساعد بقسم السنة بكلية أصول الدين
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
المقدمة:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحمن الرحيم عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم رسله المبعوث بالحق والهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن علم الحديث من أشرف العلوم بعد كتاب الله عز وجل، ولقد هيأ الله تعالى لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أئمة أعلاماً وهداة كراماً، نضر الله وجوههم بالبلاغ عن نبيه والذب عن سنته والحفظ لدينه، فبذلوا أوقاتهم وأتعبوا أجسادهم وسهروا ليلهم وواصلوا نهارهم، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
في هذا البحث نقف مع فوائد من مناهجهم وفرائد من طرائقهم، لنقتفي أثرهم فالخير - والله - في سلوك طريق من سلف من أهل العلم والهدي المستقيم.
سبب اختيار البحث:
هذا البحث مشاركة في الندوة المقامة بكلية الدراسات الإسلامية بدبي حول »علوم الحديث واقع وآفاق« فإنه لما عرضت علي المشاركة في أحد موضوعاتها آثرت موضوع »مناهج القدماء في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً«، فهو موضوع قريب إلى نفسي موافق لتخصصي.
ولقد كان لرسالتي في الماجستير »تحقيق القسم الأول من كتاب الكامل في ضعفاء الرجال« للحافظ ابن عدي، كان لها الأثر في ارتباطي بكتب المتقدمين ا لأوائل في السنة وتراجم الرواة وعلوم الحديث مما زاد تعلقي وحبي لهذا الجانب خاصة ما يتعلق بعلوم الحديث والإسناد.
ولا شك أن هذا الموضوع طويل ودقيق وشائك يحتاج إلى استقراء طويل وإدمان للقراءة في كتب القوم والبحث في زواياها واستخراج خباياها، وهذا قد لا يُتمكن منه في مثل هذا البحث.
ورغم ما كتبته فهذا الموضوع يحتاج إلى توسع أكثر وإلى تأمل أطول، فلا أزعم أني استوفيت ولا أقول إني كفيت، ففي الموضوع وقفات للمتأمل وثغرات للناقد المبصر، ولذا فإني أرى أن يسمى البحث: ((فوائد في مناهج المتقدمين في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً)).
وقد كنت كتبت البحث من ستة مباحث وتحتها مسائل في(65) صفحة مع الفهارس تعرضت فيه لشروط الاحتجاج بالحديث ونقول عن المتقدمين في المسائل المتعلقة بها ولما قدمت البحث للجنة المنظمة طلب مني اختصار البحث إلى قرابة خمسة عشر صفحة فرأيت الاكتفاء بثلاثة مباحث أرى أنها مهمة وهي:
تمهيد: المقصود بالمتقدمين
المبحث الأول: المسائل المتعلقة بالشذوذ، وتحته فروع:
1 ـ بين الشاذ والمنكر.
2 ـ التفرد والشذوذ والنكارة.
3 ـ زيادة الثقة.
المبحث الثاني: المسائل المتعلقة بالسلامة من العلة القادحة.
المبحث الثالث: المسائل المتعلقة بتقوية الحديث.
الخاتمة: هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه وأن يجعله لي ذخراً وأن يحسن لنا العاقبة، ومن رأى فيما ذكرت خطأ فليدلني عليه فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه .
تمــــهيــــــد:
المقصود بالقدماء أو المتقدمين:
لم أجد من أهل العلم من نص على فارق زمني بين المتقدمين والمتأخرين إلا أنه اشتهر بين طلاب العلم أن المتقدمين من كان قبل الثلاثمائة للهجرة، وهذا القول للحافظ الذهبي رحمه الله تعالى[1]، وكأن هذا القول اعتمد على أن ذلك عصر القرون المفضلة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم))[2].
أو لأن آخر الأئمة الستة أصحاب الكتب المشهورة في السنة كانت وفاته قريباً من الثلاثمائة وهو الإمام أحمد بن شعيب النسائي حيث توفي سنة 303هـ.
وهذا الرأي وجيه وله حظ من القوة، ففي تلك القرون عاش الجهابذة الذين كان لهم قصب السبق في حفظ السنة والذب عنها وبيان صحيحها من معلولها، وكان لهم المؤلفات الضخمة في الحديث والرجال والعلل وغيرها إلا أنه وجد بعد الثلاثمائة من الأئمة من سار على منهج المتقدمين وحذا على قواعدهم وطرائقهم فهو ملحق بهم كالإمام الدار قطني والخطيب البغدادي وابن رجب وغيرهم.
وقد عدّ الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ابن حبان من المتقدمين فقال في كتابه (تعريف أهل التقديس) في كلامه عن مكحول قال: ((مكحول الشامي الفقيه المشهور تابعي يقال إنه لم يسمع من الصحابة إلا عن نفر قليل ووصفه بذلك ابن حبان، وأطلق الذهبي أنه كان يدلس ولم أره للمتقدمين إلا في قول ابن حبان))[3] ا.هـ
وفي نزهة النظر لما تكلم عن زيادة الثقة قال: والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين... وذكر منهم الدار قطني...« وسيأتي قوله في مبحث زيادة الثقة.
فهذا يدل على أن ابن حجر رحمه الله يوسع دائرة المتقدمين، فابن حبان رحمه الله توفي سنة (354)هـ، والدار قطني مات سنة (385)هـ.
وعلى كلٍّ فالمسألة ليس لها ضابط متفق عليه فيما يظهر لي.
أما منهج المتقدمين في التصحيح والتضعيف فينبني على ضوابطهم وقواعدهم وطرائقهم في تحقق شروط القبول للحديث وعدمها وهذه الشروط التي ذكرها من ألف في مصطلح الحديث قديماً وحديثاً بناء على نص من المتقدمين من المحدثين أو استقراءاً من صنيعهم وتعاملهم مع السنة.
والشروط التي ذكروها للحديث الصحيح خمسة:
1 ـ عدالة الرواة.
2 ـ الضبط.
3 ـ اتصال السند.
4 ـ السلامة من الشذوذ.
5 ـ السلامة من العلة القادحة ويزيد الحسن لغيره.
6 ـ أن يتقوى الضعيف المنجبر بطريق آخر مثله أو أقوى منه أوشاهد كذلك.
وهذه الشروط التي ذكرها من ألف في مصطلح الحديث قديماً وحديثاً بناء على نص من المتقدمين من المحدثين أو استقراءاً من صنيعهم وتعاملهم مع السنة , وقدرأيت أن أتعرض خلال هذا البحث للثلاثة الأخيرة للحاجة لها ولكثرة الاضطراب فيها ولحاجة الطلاب لتجليتها.
المبحث الأول:المسائل المتعلقة بشرط السلامة من الشذوذ:
من المعلوم أن العلماء اختلفوا في ضابط الشاذ على أقوال، فمنهم من عممه كالخليلي حيث سوى بين الشاذ والفرد المطلق حيث قال: إن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة، وأخص منه تعريف الحاكم لأنه يقول: إنه تفرد الثقة فيخرج تفرد غير الثقة فيلزم من قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ وأخص منه كلام الشافعي حيث يقول: إنه تفرد الثـقة بمخالفة من هو أرجـح منه[4] وتعريف الشافعي رجحه الكثير منهم ابن حجر رحمه الله وغيره، أما ابن الصلاح رحمه الله فمن كلامه أنه جعل الشاذ قسمين: أحدهما: الحديث الفرد المخالف، والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف[5]. وتبعه ابن دقيق العيد حيث قال في الشاذ: هو ما خالف رواية الثقات أو ما انفرد به من لا يحمل حاله أن يقبل ما تفرد به[6].
وقد أورد العراقي في التقييد والإيضاح وابن حجر في النكت الاعتراضات على تعريف الخليلي والحاكم وابن الصلاح وليس المجال عرض ذلك وإنما سأعرض لمسائل لها علاقة بمنهج المتقدمين:
1 ـ بين الشاذ والمنكر:
فرق بينهما بأن الشاذ ما خالف فيه الثقة من هو أولى منه، والمنكر: ما خالف فيه الضعيف من هو أولى منه، وهذا الاصطلاح الذي عليه كثير من المتأخرين التفريق بينهما كما ذكره ابن حجر حيث قال: إن بين الشاذ والمنكر عموماً وخصوصاً من وجه لأن بينهما اجتماعاً في اشتراط المخالفة وافتراقاً في أن الشاذ رواية ثقة أو صدوق، والمنكر رواية ضعيف، وقد غفل من سوى بينهما[7] يعني بذلك ابن الصلاح حيث يدخل المنكر في تعريفه الثاني ولأنه قال: وإن كان بعيداً عن ذلك - يعني الحفظ والضبط - لرددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ والمنكر.
أقول: ورد إطلاق المنكر على ((ما خالف فيه الثقات)) في كلام المتقدمين، فأبو داود رحمه الله قال عن حديث همام بن يحيى عن ابن جريج عن الزهري عن أنس في وضع الخاتم عند دخول الخلاء، قال أبو داود: حديث منكر وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه، والوهم فيه من همام[8].
فهنا عدّ أبو داود مخالفة همام من المنكر مع أن همام بن يحيى ثقة روى له الشيخان[9]، ولذلك لما مثل العراقي في التقييد والإيضاح بهذا المثال للمنكر تعقبه ابن حجر في النكت فقال: فإنه شاذ في الحقيقة إذ المنفرد به من شرط الصحيح[10]. فابن حجر هنا تمسك بقاعدته في التفريق بين الشاذ والمنكر بينماينبغي للطالب أن يتنبه الى أن كثيراً من المتقدمين لايفرقون بينهما.
ومن هذا الباب أيضاً حديث أخرجه النسائي في الكبرى من طريق أبي الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشربوا في الظروف ولا تسكروا. قال أبو عبدالرحمن (النسائي) وهذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، ثم نقل عن أحمد قال: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده ولفظه[11]. وسلام بن سليم أبو الأحوص الكوفي ثقة متقن صاحب حديث كما في التقريب[12] ، فانظر كيف حكم النسائي على مخالفة أبي الأحوص بالنكارة مع أن اصطلاح المتأخرين أنه شاذ، والمقصود: أن بعض المتقدمين يطلقون النكارة على الشذوذ كما جرى عليه ابن الصلاح رحمه الله، والأمثلة في هذا الباب كثيرة لمن تأمل.
2 ـ التفرد والشذوذ والنكارة ((هل كل ما تفرد به راوٍ يعد شاذا أو منكراً؟ ولو لم يخالف)):
هذا المبحث مهم لا يستغني عنه الباحثون والمتخصصون وهو مبحث دقيق اضطرب فيه كثيرون، وحقيق أن يخص مستقلاً ببحوث ومؤلفات وله علاقة بالعلة ولكني ذكرته هنا لأن علاقته بالشاذ أقوى، فالخليلي رحمه الله جعل مطلق التفرد شذوذاً والحاكم جعل تفرد الثقة شذوذاَ وقد تعقبوا عليهما كما أشرت سابقاً.
لكن المتأمل لكلام المتقدمين يجد أنهم أطلقوا الشذوذ والنكارة على بعض ما انفرد به الثقات بدون مخالفة ولذلك قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث[13].
أقول: واستعمالهم للنكارة في هذا الباب أكثر، وهذا والله أعلم لأن لفظ ((الإنكار)) عام في كل ما استنكر وأنكره عليه غيره ولو كان المنكر عليه ثقة.
ومن هذا الباب ما يقولون عنه: إسناده صحيح وهو شاذ، يعني للتفرد كما في حديث أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ}[14]، قال: في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم... إلخ، ورواه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضّحي به، وصححه الحاكم قال السيوطي ولم أزل متعجبامن تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقي يقول: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرّة لا أعلم لأبي الضّحى عليه متابعاً[15]. كذلك أخرج الحاكم حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يهلكون عند الحساب: جواد وشجاع وعالم)) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وعلى شرطهما وهو غريب شاذ[16].
وسأنقل هنا كلاماً لابن رجب في إطلاق النكارة على ما انفرد به الثقة، فقد نقل ابن رجب رحمه الله عن الإمام أحمد قال: قال لي يحيى ابن سعيد: لا أعلم عبيدالله بن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام....)) الحديث، قال أبو عبدالله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه، قال أبو عبدالله: فقال لي يحيى بن سعيد: فوجدته قد حدّث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله، قال أبو عبدالله: لم يسمعه إلا من عبدالله فلما بلغه عن العمري صححه، وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر وكلام أحمد قريب من ذلك. وقال عبدالله: سألت أبي عن حسين بن علي الذي يروي حديث المواقيت ؟ فقال:هو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت ليس بمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره، وقال أحمد في بريد ابن عبدالله بن أبي بردة يروي أحاديث مناكير، وقال أحمد في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: هو المتفرد برواية حديث الأعمال بالنيات في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير أو قال: منكرة، وقال في زيد بن أبي أنيسة: إن حديثه لحسن مقارب وإن فيها بعض النكارة، وقال الأثرم: قلت لأحمد: إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب ؟ قال: نعم. وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح، وقد استنكر أحمد ما انفردوا به، وكذلك قال في عمرو بن الحارث: له مناكير، وفي الحسين بن داود وخالد بن مخلد وجماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما ينفردون به، وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا وأن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر، وقد خرجا في الصحيحين حديث بريد بن عبدالله بن أبي بردة وحديث محمد بن إبراهيم التيمي وحديث زيد بن أبي أنيسة. انتهى كلام ابن رجب[17].
وهذا يدل على إن إطلاق النكارة على التفرد من الثقة فيما سبق استعمله يحيى بن سعيد والإمام أحمد[18]، أما الإمام البخاري ومسلم والأكثرون من المحدثين بخلافهم يصححونه ولا يعدونه منكراً، وقد ذكر ابن رجب رحمه الله في آخر شرحه للعلل أمثلة كثيرة لأحاديث أنكرت على بعض الثقات[19] .
وتفرد الثقات في الأصل ليس بعلة وإلا للزم القول بوجوب تعدد الرواة في شرط الصحة ولم يقل بهذا عامة أهل العلم، لكن طائفة من المتقدمين قد يعلّون الحديث بتفرد الثقة ويجعلونه شاذاً أو منكراً، فمتى يكون تفرد الثقة عندهم علّة ؟
فيما يظهر لي من خلال التتبع أن ذلك يكون في حالات أذكر أبرزها:
الأولى: أن يكون المتفرد الثقة تفرد عن راوٍ عالم حريص على نشر ما عنده من الحديث وتدوينه ولذلك العالم طلاب كثيرون مشهورون وقد يكون له كتب معروفة قيد حديثه فيها وكان تلامذته حفاظاً حريصين على ضبط حديثه حفظاً وكتابة، فإن شذ هذا الراوي عن هؤلاء فروى ما لا يروونه فإن هذا ريبة قد توجب زوال الظن بحفظه حسب القرائن[20] ،بينما لو انفرد راوٍ بحديث عمن ليس على هذه الشاكلة من مشايخه فليس هناك ريبة في الأمر وهذا ما أشار إليه الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه حيث قال: فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره أو كمثل هشام بن عروة وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، وقد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم في الكثرة، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث ممن لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس[21].
وفي هذا أيضاً يقول الذهبي في الموقظة: وقد يعد مفرد الصدوق منكراً، وقال في موضع آخر وقد يسمى جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكراً[22] فيحمل كلام الذهبي على ما سبق، ويحمل عليه أيضاً تعريف الحاكم للشاذ، وقد أحسن الدكتور حمزة المليباري حيث دافع عن الحاكم في هذا فقال: ولم يقصد الحاكم بذلك تفرد الثقة على إطلاقه، بل قصد نوعاً خاصاً منه وينقدح في نفس الناقد أنه غلط[23].
ومن أمثلته ما تفرد به محمد بن عبدالله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه)) رواه أهل السنن.فمحمد بن عبدالله بن الحسن ثقة لكن أعلّ البخاري الحديث بتفرده فقال: لا يتابع عليه قال: ولا أدري أسمع محمد بن عبدالله بن حسن من أبي الزناد أو لا[24]. وقد فصّل القول في هذا المثال وبينه ببيان واضح الشيخ الفاضل الدكتور حمزة بن عبدالله المليباري في كتابه الفائق ((الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها))[25]، وقد تطرق الشيخ الدكتور حمزة في كتابه لمسألة التفرد وتوسع في بيانها بالأمثلة بكلام جيد موثق قد استفدت منه.
ومن أمثلته أيضاً وأمثلته كثيرة ما ذكره الشيخ المحدث عبدالله السعد وفقه الله في بعض أشرطته المسجلة من تفرد خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها بحديث: ((إذا بلغت المرأة المحيض لم يصح أن يرى منها إلا وجهها وكفيها)) قال: فأين الرواة عن عائشة كابن أختها عروة، والأسود بن يزيد وعمرة راويتهاعن هذا الحديث؟.
ومن أمثلته أيضاً تفرد عبدالمجيد بن أبي رواد عن مالك عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) فأين أصحاب مالك وتلاميذه عن هذا الحديث لم يرووه؟
الحالة الثانية: أن يكون المتفرد من الثقات الحفاظ الكبار لكنه تبين وهمه أو خطؤه بتفرده فينبه على ذلك النقاد من حفاظ المحدثين لقرائن ظهرت لهم.
وإلى هذا يشير ابن رجب رحمه الله في قوله: وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه[26].
أقول: إنما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار لقرائن ودلالات ظهرت لهم، وكلام ابن رجب رحمه الله كلام محقق مدقق مارس كلام المتقدمين وخبره.
ولهذا أمثلة كثيرة، ومن تأمل كتب العلل وكامل ابن عدي وجد من ذلك كثيراً، فمن ذلك أحاديث أنكرها ابن عدي على إسماعيل بن أبي أويس رواها عن خاله مالك بن أنس وقال: لا يتابع عليها وإسماعيل ثقة مخرج له في الصحيحين وغيرهما[27].ومن أمثلته أيضاً تفرد عمروبن أبي عمروعن عكرمة عن ابن عباس بحديث ((إن رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) رواه الأربعة وأحمد وقد أنكره عليه ابن معين والنسائي وغيرهم مع أنه ثقة احتج به الجماعة[28]. ومن ذلك أيضاً تفرد قتيبة بن سعيد عن الليث بحديث معاذ في الجمع بين الصلاتين في السفر، فقد أعلّه البخاري وأبو حاتم وأبو داود بذلك وتوسع في بيان ذلك الشيخ الدكتور حمزة المليباري في كتابه[29] فليراجع.
وهناك في هذا الباب حالة ثالثة أشار إليها الذهبي وهي أن يكون المتفرد من الطبقات المتأخرة بعد انتشار الرواية[30].
زيادة الثقة:
وهو مبحث مهم له علاقة بالشذوذ والتفرد والنكارة وقد كُتب وبُحث فيها كثيراً لكني سأنقل في هذا ملخصاً لطريقة المتقدمين حيال زيادات الثقات، وذلك لأنك ترى عند المتأخرين خللاً في هذا الباب فيطلقون القول بقبول زيادة الثقة مطلقاً وقد ينسبون ذلك للمحدثين[31]، وإنما هو قول الفقهاء ومن تبعهم كالخطيب البغدادي في الكفاية وابن حبان والحاكم[32].
والصحيح من مذهب المتقدمين أنهم لا يطلقون قبول الزيادة بل الأمر عندهم حسب القرائن والمرجحات كأن يكون الزائد مبرزاً في الحفظ والضبط.
قال ابن رجب: من تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعاً أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة، وهكذا الدار قطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات ويرجح الإرسال على الإسناد، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك المواضع الخاصة وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ[33].
وقال الترمذي في العلل: وإنما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه، وقال ابن خزيمة: لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ[34].
وقال ابن دقيق العيد: من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند ورافع وواقف أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد فلم يصب في هذا الإطلاق فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول[35].
وقال ابن حجر في النـزهة: المنقول عن الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة[36].
وقال ابن حجر: والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه- يعني ما زاده الثقات - بحكم مستقل بل يرجحون بالقرائن، وقال في موضع آخر - بعد أن نقل كلاماً عن بعض الأئمة كالدار قطني وابن عبدالبر- قال: فحاصل كلام هؤلاء أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً إلى أن قال: وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه كمالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها، فتفرد واحد عنه بها دونهم مع توافر دواعيهم على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقف عنها[37].
وهذا كلام جيد محقق في هذا الباب واشيرهنا الى أن بعض الأئمة كالامام أحمد قد يترددون في قبول الزيادة حتى من الثقات نقل ابن رجب عن أحمد:كنت أتهيب حديث مالك»من المسلمين«-يعني زيادته في حديث صدقة الفطر-يعني حتى وجده من حديث العمريين[38] وأكتفي بهذا، والله أعلم.
المبحث الثاني: في المسائل المتعلقة بالعلة:
وهذا باب واسع يطول الكلام فيه إنما أذكر فيه نقاطاً مهمة مختصرة حول منهج المتقدمين في إعلال الحديث:
1 ـ طريقة المتقدمين في الكشف عن العلة هي جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف الرواة وهذا واضح من كلامهم قال علي بن المديني رحمه الله: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه[39].
وقال الخطيب البغدادي: السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم في الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط[40].
وقال الحافظ العراقي: وتدرك العلة بتفرد الراوي بمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك يهتدي الجهبذ أي الناقد بذلك إلى اطلاعه على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهمه وغير ذلك[41].
2 ـ أن النقاد من المحدثين قد لا يصرحون بالعلة وقد تقصر عباراتهم عنها:
يقول ابن رجب رحمه الله: قاعدة مهمة، حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولايشبه حديث فلان فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارات تحضره وإنما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم[42] .
وذكر ابن رجب مثالاً لذلك ما قاله أحمد في سعيد بن سنان: يشبه حديثه حديث الحسن لا يشبه أحاديث أنس، ومراده أن الأحاديث التي يرويها عن أنس مرفوعة إنما تشبه كلام الحسن البصري أو مراسيله، وقال الجورجاني: أحاديثه واهية لا تشبه أحاديث الناس عن أنس[43].
3 ـ من طرائق العلة عند أئمة الجرح والتعديل نقد المتون وإعلال الأسانيد بها.
وذلك لأنهم يعرفون الكلام الذي يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي لا يشبه كلامه، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: نعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون مثله كلام النبوة، ونعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته[44].
ولذلك تجدهم كثيراً ما يضعّفون الحديث الذي في متنه نكارة وغرابة ولو كان إسناده ظاهره الصحة، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه الطويل ((في الصلاة أربعاً والدعاء لحفظ القرآن)) فهذا الحديث أخرجه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس به قال الترمذي: حسن غريب[45]. وأخرجه أبو عبدالله الحاكم في المستدرك بسنده من طريق الوليد أيضاً، وقال: صحيح على شرط الشيخين[46]، فهذا الحديث استغربه الترمذي كما أعله أبو أحمد الحاكم[47] فقال: إنه يشبه أحاديث القصاص[48] وأعله من المتأخرين الحافظ ابن كثير في كتاب فضائل القرآن قال - بعد نقل كلام الترمذي والحاكم - ولا شك أن سنده من الوليد على شرط الشيخين حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج، فالله أعلم، فإنه من البين غرابته بل نكارته[49].
ومن هذا الباب أيضاً حديث: ((في كل أرض آدم كآدمكم)) وقد سبق الكلام عليه في المبحث السابق.ومن ذلك أيضاً أن يكون متن الحديث سمج المعنى أو مخالفاً للقرآن فيعلّونه بذلك مثل ما ورد: ((عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب ويكثر الدمعة قُدس فيه سبعون نبياً)) فهذا أعله الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله فقال لما سئل عنه: أرفع شيء في العدس أنه شهوة اليهود ولو قدّس فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء فكيف بسبعين نبياً ؟ وقد سماه الله ((أدنى)) ونعى على من اختاره على المن والسلوى وجعله قرين الثوم البصل[50]. فانظر كيف أعلّ ابن المبارك هذا القول لسوء معناه ومخالفته لكتاب الله.
ونقد المتون عند المتقدمين بابه واسع وأمثلته كثيرة، وقد اعتنى به وألف فيه شيخنا الدكتور مسفر غرم الله الدميني في كتابه الجيد: ((مقاييس نقد متون السنة)) فليراجع.
وبعد هذا فإنك تعجب أن تجد من المتأخرين من يصحح الأحاديث أو يحسنها مغفلاً هذا الجانب كما تراه كثيراً عند السيوطي في كتابه اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، فمن ذلك أنه قال في حديث: ((إذا بعثتم بريداً فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم)) قال: وهذا الحديث في معتقدي حسن صحيح وقد جمعت طرقه في جزء[51] ،وأيضاً قد حسنه المناوي[52] مع ما يظهر في متنه من نكارة بل إن الحافظ ابن القيم أورده في المنار المنيف وقال: وفيه عمرو بن راشد، قال ابن حبان: يضع الحديث، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات[53]. وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الأوسط وفي إسناد الطبراني عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة وبقيةرجاله ثقات، وطرق البزار ضعيفة[54]. فمثل هذا كيف يصحح.
ووقع التساهل أيضاً من بعض من المعاصرين في هذا الباب، ولعلي أذكر لذلك من تصحيحات الشيخ المحدث الألباني تغمده الله برحمته، فرغم جهوده الضخمة في خدمة السنة وسمعت شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز يثني عليه كثيراً، إلا أنه رحمه الله يتساهل أحياناً في التصحيح فقد صحح حديث: ((ولد الزنى شر الثلاثة))[55] وحمل معنى الحديث على الرواية: ((إذا عمل بعمل أبويه)) مع ضعف هذه الرواية حيث ضعفها الألباني نفسه وكان الأولى أن يحمل الحديث كما حمله الطحاوي وابن القيم على شخص بعينه وذلك لرواية الطحاوي والحاكم وهي: »بلغ عائشة رضي الله عنها أن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولد الزنى شر الثلاثة، فقالت: يرحم الله أبا هريرة أساء سمعاً فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يعذرني من فلان ؟ قيل يا رسول الله إنه مع ما به ولد زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو شر الثلاثة))، والله يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. صححه الحاكم على شرط مسلم[56] وتعقبه الذهبي بأن فيه سلمة بن الفضل الأبرش لم يحتج به مسلم، وقد وثق وضعفه ابن راهويه، وقد ذكر هذا كله الألباني وضعف هذه الرواية ولم يحمل الحديث عليها بل قال بعمومه.أقول: وحمل الحديث على هذه الرواية وهي ضعيفة أولى من حمله على رواية: ((إذا عمل بعمل أبويه« لأنها أشد ضعفاً منها، ففي أحد طرقها راوٍ متروك كما ذكر الألباني نفسه، ومما يؤيد نكارة معناه أن ابن عباس رضي الله عنه لما بلغه هذا الحديث قال: ((لو كان شر الثلاثة لما استؤني بأمه حتى تضعه))[57] يعني الأحاديث الواردة بإمهال الحامل من الزنى حتى تضع وهي صحيحة.
ففهم عائشة رضي الله عنها معارضة عموم الحديث للقرآن مع ما يؤيده من قول ابن عباس أولى من القول بعموم هذا الحديث والتعسف في تأويله كما فعل الألباني حيث ذكر أنه لم يحرم الجنة بفعل والديه بل إن النقطة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص[58].
ثم أراد الألباني رحمه الله أن يؤيد ما ذكره فقوى زيادة: ((ولا ولد زنية)) في حديث: ((لا يدخل الجنة عاق... إلخ)) وليست بقوية لمن دقق وتأمل، ثم حاول أن يؤولها فتعسف أيضاً[59] مع أنه صحح ما رواه عبدالرزاق عن عائشة أنها قالت: ((ما عليه من وزر أبويه، قال تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى)) قالته رداً على من روى هذا الحديث.
ومن هذا الباب أيضاً فيما يظهر لي تصحيحه لحديث: ((أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس)) (يعني بالعين)[60] فهو مع ما في متنه ففي سنده طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري وهو صدوق لكنه يهم كما في التقريب(281)، ونقل ابن عدي عن البخاري قال: فيه نظر، وقد تفرد به كما ذكر ابن عدي[61] فهو وإن كان قد وثق إلا أن التفرد مع الوهم يقضي التوقف فيما رواه.
وأعجب من ذلك تصحيحه لحديث: ((إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض، وعنقه منثن تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظمك ربنا، فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً))[62] .وليس المجال تتبع ذلك فأكتفي بما سبق خوف الإطالة، والأمثلة كثيرة.
4 ـ ومن طرق الإعلال عند المتقدمين إعلال الحديث إذا دلّ على معنى يخالف المعنى الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة:
وأذكر مثالاً لذلك حديث: ((أمتي أمة مرحومة جعل عذابها بأيديها في الدنيا)) فهذا الحديث ذكر طرقه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير ثم أعلّه بقوله: والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة وأن قوماً يعذبون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر[63] ا.هـ فهذا تعليل إمام الحديث والعلل البخاري رحمه الله نظر فيه إلى مخالفة معنى هذا الحديث لما ثبت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة الأخرى التي تثبت دخول طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم النار[64].
وعلى كل فللمتقدمين طرائق كثيرة في إعلال الحديث يطول استيعابها، إنما أشرت لإبرز ما غفل عنه المتأخرون.
تنبيه حول الأحاديث المعلّة في الصحيحين:
من المعلوم أن هناك أحاديث انتقدت على البخاري ومسلم رحمهما الله وذكر لها علل لكن ليس كل ما انتقد على البخاري ومسلم يكون فيه وجه الحق مع المنتقد بل يكون كثيراً معهما خاصة البخاري، وما كان فيها من منتقد فهو ليس من قبل ثقة الرواة بل من قبل خطئهم.
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (( ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وكذلك روى مسلم: خلق الله التربة يوم السبت ونازعه فيه من هو أعلم منه يحيى بن معين والبخاري وغيرهما فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والحجة مع هؤلاء[65] ثم فصل في ذلك إلخ كلامه رحمه الله.
أقول: ومن هذا الباب ما يقع للباحث في الصحيح من ألفاظ يجزم أنها خطأ، فمن ذلك حديث في صحيح مسلم ذاكرني به بعض طلاب العلم من طلابنا وهو حديث القراءة في ركعتي الفجر: ((قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا« والتي في آل عمران: »تعالوا إلى كلمة سواء بيينا وبينكم)) هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي خالد الأحمر عن عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس، فهذا فيما يظهر خطأ والصواب الرواية الأخرى التي أخرجها مسلم من طريق مروان بن معاوية الفزاري عن عثمان بن حكيم به بلفظ: »كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: ((قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)) الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منها: ((آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون)) وتابع مروان بن معاوية على هذا اللفظ عيسى ابن يونس عن عثمان بن حكيم، كما أخرج مسلم رحمه الله[66] وتابعهما ابن نمير عند أحمد في المسند (1934).
فهؤلاء ثلاثة خالفهم أبو خالد الأحمر (سليمان بن حيان) وقد ذكر في ترجمته أنه يخطئ فذكر الآية: »تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم« فأخطأ، والصواب رواية الجماعة وأن الآية هي: ((فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون)).
ولعل أبا خالد الأحمر اشتبه عليه الأمر لأن آية: »قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء.. آخرها: ((فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)) فأخطأ فذكر آية بدل الأخرى. والله أعلم فالمقصود أن هذا لا ينقص من قدر الصحيحين فهو قليل ونادر بالنسبة لأحاديثهما، كما أنه لا ينافي القول إن الأمة تلقتهما بالقبول فإن ذلك مستثنى منه كما ذكر ابن الصلاح، فليتنبه لذلك طالب العلم والله أعلم.
المبحث الثالث: المسائل المتعلقة بتقوية الحديث بالطرق الأخرى والشواهد:
وهذا مبحث مهم يضطرب فيه بعض المتأخرين والمعاصرين، وقد تكلم فيه أهل العلم في كتب المصطلح وفي كتب التخاريج والعلل، وقد كفانا في هذا الموضوع أحد الباحثين، فقد جمع في هذا الباب الشيخ الدكتور المرتضى الزين أحمد كتابه »مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة« ط: مكتبة الرشد، وهو في الأصل رسالة دكتوراه مقدمة للجامعة الإسلامية بالمدينة وهو كتاب جيد جمع فيه مؤلفه ما ورد عن المحدثين المتقدمين والمتأخرين في هذا الباب فأجاد وأفاد جزاه الله خيراً، وقد أثنى على الكتاب الشيخ المحدث حماد الأنصاري رحمه الله إلا أني هنا سأنبه على نقطتين:
1 ـ أن بعض المتأخرين تساهلوا في تقوية الأحاديث، فإذا اجتمعت عندهم طرق كثيرة للحديث ولو كانت غير معتبرة - يعني غير صالحة للانجبار - كأن يكون في أسانيدها من هو متروك أو متهم أو هي واهية شديدة الضعف فإنهم يقوون الحديث بذلك فيصححونه أو يحسنونه، ومن هذا القبيل ما أشرت إليه سابقاً من تصحيح السيوطي لحديث: ((إذا بعثتم بريداً فابعثوا حسن الوجه حسن الاسم))، ويقع له من هذا النوع في كتابه اللآلي المصنوعة.
وابن حجر رحمه الله شدد في هذا في النزهة فقال: ((ومتى توبع السيء الحفظ بمعتبر كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه..))[67] فلاحظ أنه لم ير التقوية بالأدني ونقل الدكتور المرتضى عنه أن الحديث الذي ضعفه ناشئ عن تهمة أو جهالة إذا كثرت طرقه ارتقى عن مرتبة المردود والمنكر الذي لا يجوز العمل به بحال إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في فضائل الأعمال.
ونقل عن ابن كثير، قال: قال الشيخ أبو عمرو: لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة أن لا يكون حسناً لأن الضعيف يتفاوت، فمنه ما لا يزول بالمتابعات كرواية الكذابين والمتروكين، ومنه ضعف يزول بالمتابعة كما إذا كان راويه سيء الحفظ أو روي الحديث مرسلاً فإن المتابعة تنفع حنيئذ ويرفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة[68].
أقول: وبهذا يتبين خطأ طريقة بعض المتأخرين من التقوية بكثرة الطرق ولو كانت واهية.
2 ـ الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول وهو ضعيف هل يقوى عن ضعفه؟
أقول: والذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يفيد العلم - يعني القطع - وذكر أنه قول أهل الحديث قاطبة، وقال به الشافعي وابن عبدالبر، وابن حجر والسيوطي والزركشي، ولعلي هنا أنقل كلام الشافعي وابن عبدالبر وابن تيمية رحمه الله (ملخصاً):
أما الشافعي فقال في الرسالة: ((ووجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: ((لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر)) ويأثرونه عمن حفظوا عنه العلم ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا النقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين. ثم ذكر الشافعي أنه ورد بإسناد لا يثبته أهل الحديث ثم قال: وإنما قبلناه بما وصفت من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه[70].
أما الإمام الحافظ ابن عبدالبر فقال بعدحديث عمرو بن حزم في الديات وهو كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم له، وقد رواه مالك مرسلاً[71]، قال ابن عبدالبر رحمه الله: وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول[72].
أما ابن تيمية فأطال في تقرير ذلك فألخص ما قاله قال: الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملا بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف، وهو الذي ذكره جمهور المنصفين في أصول الفقه كالسرخسي، وذكر طائفة من الأصوليين، ثم قال: وهو قول أكثر أهل الكلام وهو مذهب أهل الحديث قاطبة وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح في مدخله إلى علوم الحديث، فذكر ذلك استنباطاً وافق فيه هؤلاء الأئمة، ثم ذكر من خالف في هذا كالباقلاني والغزالي وابن عقيل قال: وعمدتهم أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده، وأجاب عليهم بقوله: إن إجماع الأئمة معصوم عن الخطأ في الباطن وإجماعهم على تصديق الخبر كإجماعهم على وجوب العمل به... الخ كلامه رحمه الله[73].
ونقل الحافظ بن حجر رحمه الله كلام ابن تيمية وأيده بنقول نقلها عن طائفة من أهل العلم في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح[74].
هذا ما تيسر لي جمعه في هذا الموضوع، وأسأل الله التوفيق والسداد.
الخـــــــاتـمــــــة:
وأختم هذا البحث بعدة وصايا لطلاب العلم الذين يدرسون أويتخصصون في علوم الحديث
أولأً: العناية بكتب أهل العلم المتقدمين قراءة واستنباطاً وتقعيداً، ككتب الإمام أحمد والبخاري وعلي بن المديني وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم من أهل الحديث.
ثانياً: العناية بقراءة كتب المتأخرين الذين ساروا على طريقة المتقدمين واستفادوا من أقوالهم وطرائقهم كالحافظ الذهبي في كتابه الموقظة وابن رجب في شرحه لعلل الترمذي وكتابه فتح الباري، وغيرهم.
ثالثاً: الربط بين كلام المتقدمين النظري وتطبيقهم العملي،- يعنى النظر في قواعدهم وألفاظهم في الرواة والأحاديث ومقارنة ذلك بأحكامهم على الأحاديث وبيان درجتها - فإذا وجد الباحث مثلاً حديثاً ضعفه الإمام أحمد فليراجع أقوال الإمام في رواة سند هذا الحديث، وكذا إذا صححه.فبهذا يستطيع التعرف على طريقتهم ويسلم من الإشكالات التي وقع فيها بعض المتأخرين كمن قرأ تصريح بعض المتقدمين بأن زيادة الثقة مقبولة فصحح كل زيادة وهذا خطأ.
فإطلاقات بعض المتقدمين قد تحمل على وجوه أو وجه يتبين لمن مارس كلامهم وخبر طريقتهم وعرف أحكامهم.
رابعاً: عدم التعجل في الحكم على الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً، فهذا مزلق خطير، بل لا بد من التأني والنظر في كلام أهل العلم الكبار من المتقدمين وتعليلاتهم. فكم نجد الآن من بعض طلاب العلم من يصحح حديثاً قال فيه المتقدمون: لا يصح بوجه أو لا يصح في هذا الباب شيء.
خامساً: الحذر من تصحيحات بعض المتأخرين المتساهلين، بل ينبغي الفحص والبحث والرجوع إلى المصادر وكلام أهل العلم للتوثق من ذلك، كذلك الحذر من تضعيف بعض المتشددين للأحاديث الصحيحة التي صححها الأئمة الكبار وقبلوها، ولا أزعم أنهم لا يخطئون، بل الخطأ إلى من بعدهم أقرب.
سادساً: أقترح أن تكون لجان للاستفادة من الدراسات العلمية الحديثة كرسائل الماجستير والدكتوراه وغيرها من المؤلفات المحققة من كتب العلماء لوضع مناهج دقيقة وموثقة لمواد علوم الحديث والتخريج ودراسة الأسانيد ومناهج المحدثين لتدرس في الجامعات والأقسام الشرعية.
سابعاً: كما أقترح أن تتوجه مراكز البحوث والدراسات الشرعية لخدمة كتب المتقدمين في السنة وعلوم الحديث وتشجيع البحوث في هذا الباب.
هذا وأسأل الله العلي القدير أن ينفعني بما علمني وأن يجعله حجة لي، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يسدد أقوالنا وأفعالنا إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
(1) ذكر الحافظ بن حجر في هدي الساري في ترجمة يزيد بن عبدالله بن خصيفة بعد أن نقل توثيقه عن ابن معين وأبي حاتم والنسائي، قال: وروى الآجري عن أبي داود عن أحمد أنه قال: منكر الحديث. قلت (الحافظ): هذه لفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث عرف ذلك بالاستقراء من حاله وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة كلهم. هدي الساري، ص (453). وذكر السخاري أنهم قد يطلقون ))منكر الحديث(( على الثقة إذا روى المناكير عن الضعفاء كما قال الحاكم للدار قطني: فسليمان ابن بنت شرحبيل قال: ثقة، قلت: أليس عنده مناكير ؟ قال: يحدث بها عن قوم ضعفاء فأما هو فثقة. فتح المغيث (ا/375).
(3) هو الحافظ محمد بن أحمد النيسابوري الكرابيسي، قال الذهبي: أبو أحمد الحاكم محدث خراسان الإمام الحافظ الجهبذ صاحب التصانيف، وهذا هو الحاكم الكبير، وهو شيخ أبو عبدالله الحاكم صاحب المستدرك، قال عنه تلميذه أبوعبدالله: كان أبو أحمد من الصالحين الثابتين على سنن السلف ومن المنصفين. انظر: تذكرة الحفاظ (3/977، 978).
(2) موطأ مالك (4/201) بشرح الزرقاني وأخرجه عبدالرزاق في المصنف (4/4) وابن خزيمة (4/19) مرسلاً، ورواه موصولاً النسائي في السنن (8/57) وغيره من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده. وسليمان بن داود المذكور هنا وهم إنما هو سليمان بن أرقم كما رجحه المحققون من أهل العلم، وسليمان بن أرقم ضعيف فلا يصح الحديث موصولاً كما قال أبو داود وغيره. انظر: التلخيص الحبير (4/18)، وميزان الاعتدال (3/287)، ونيل الأوطار (7/163).
Komentar
Posting Komentar