د
تقــديــم بقلم : عمر عبيد حسنه
الحمد لله القائل : ( كُنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله 00 ) ( آل عمران : 110 ) ، الذي جعل خيرية هذه الأمة وتميزها ، وقوامها ، وكيانها ، وخلودها ، واستمراريتها ، منوطاً بقيامها بالحق ، والدعوة إليه ، والنشر له ، والإغراء به ، واستمرار حراسته ، والدفاع عنه ، حيث لم يرض الله لها ـ وهي أمة الرسالة الخاتمة ـ أن تكون صالحة بذاتها ، بل لابد أن تكون صالحة بذاتها ، مصلحة لغيرها ، مضحية في سبيل تمكين الحق ، مدافعة للباطل ، حتى تستحق صفة الخيرية ، والتميز ، والفضل .
قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ( المائدة : 8 ) .
ذلك أن الخاتمية تعني فيما تعني : توقف النبوات : وتوقف النبوة ، يعني : توقف التصويب من السماء ، لأي منكر وخروج وانحراف ـ لذلك لابد من أن تكون القوامة على الحق ويكون التصويب مستمراً ، لأن الشر من لوازم الخير، والمنكر من لوازم المعروف ، والتدافع بين الخير والشر ، والمعروف والمنكر ، من سنن الله الاجتماعية في الخلق ، قال تعالى : ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ( الرعد: 17 ) . وقال : ( ولولا دفع الله النَّاس بعضهم ببعض لَّهدَّمت صوامع وبَيِعُُ وصلوات ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيراً 00 ) ( الحج : 40 ) .
ولولا هذا الضرب ، بين الحق والباطل ، وهذا التدافع ، بين الخير والشر ، لتوقف التاريخ ، وانتهت الحياة ، وتوقف الاختيار ، ولم يبق أي معنى للتكليف وأي مدلول للابتلاء ، لذلك جعل الله التصويب في الرسالة الخاتمة ، وفي أمة الرسالة الخاتمة ذاتياً ، يمارس في ضوء قيم وهدايات وثوابت الوحي ، وجعله تكليفاً شرعياً ، يتحدد بمقدار الاستطاعة ، وسبيلاً لاستمرار الأمة ، ومناط خيريتها ، وتميزها ، كما أسلفنا .
ذلك أنه لا معنى لخلود الرسالة ، الذي يعني استمرار الحق ، واستمرار حراسته ، والقيام به ، وتقديم النماذج التي تجسدها في كل زمان ومكان ، إِذا لم يستمر التصويب ويستمر التجديد وإنتاج النماذج وتستمر الأمة القائمة به .
والصلاة والسلام علي الذي بُعث في الأمة رسولاً منها ، يتلو عليها ، آيات الله ، ويزكيها ، ويعلمها الكتاب والحكمة ، ويضع عنها إِصرها والأغلال التي كانت عليها ، يشهد عليها ، ويصوب مسارها لتتحقق لها صفة الخيرية ، وتتأهل بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ، لتكون شهيدة على الناس إلى قيام الساعة 00 فهي أمة القيادة بما أورثها الله من الكتاب ، واصطفاها له ، لأنها وحدها التي تمتلك الإمكان الحضاري ، إمكان التصويب ، بما اختصت من قيم السماء الصحيحة ، وتمتلك الشهادة على الناس ، ولهم ، بما تحقق لها من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس 000 ) ( الحج : 78 ) .
وبعــــد :
فهذا كتاب الأمة الحادي والأربعون : (( فقه تغيير المنكر )) للدكتور محمود توفيق محمد سعد ، الأستاذ في جامعة الأزهر ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر ، مساهمة منه في استرداد شخصية المسلم المعاصر المتوازن الذي يعيش التوحيد الحقيقي والانسجام العملي ، بين معارف وهدايات الوحي المعصوم في الكتاب والسنة ، ومدارك ومكتسبات العقل ، أو بين صحيح المنقول ، وصريح المعقول ، كما يقول الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ويتخلص من الثنائية وألوان الشرك الذي يؤدي إلى الانشطار الثقافي والمعرفي ، الذي كان ولا يزال وراء التمزق والضلال الثقافي ، للوصول إلى إعادة إخراج الأمة المسلمة ، وتحقيق شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ، وبناء خيريتها ، لتكون مؤهلة للشهادة على الناس والقيادة لهم ، هذه الخيرية التي تجيء ثمرة لتكليف ، ومجاهدة ، ومعاناة ، وتضحيات في سبيل التصويب والمناصحة ، التي تحققها حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتقويم سلوك المجتمع المسلم بشرع الله ، وحمل الرحمة للإنسانية جمعاء ، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان الذي هو مصدر الشر والشرك في العالم ، وتأمين حرية الإنسان في الاختيار ، وتحقيق عبوديته لله ، وتحريره من سائر العبوديات ، وفي ذلك استرداد لإنسانيته ، وتحقيق لكرامته ، التي تميزه عن سائر المخلوقات .
الفصل الأول
إن منهج الإسلام في بناء المسلم عقيدةً وسلوكاً لا يرمي إلى أن يجعله صالحاً في نفسه فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى أن يجعله الصالح المصلح ، فيه يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، وبه ترتقي الأمة من طور الاتصاف ( بالإسلامية ) انتساباً إلى أفق ( المسلمة ) سلوكاً ووجوداً .
المسلم الصالح في نفسه فحسب ، به تكون الأمةُ الإسلامية ، ولا تقوم به الأمة المسلمة ، فإنَّ المسلمة أمة صالحة في نفسها مصلحة ما حولها . ومن ثمَّ كانت دعوة الإٍسلام رامية دائماً إلى الصلاح والإصلاح معاً ، ولن يكون إصلاح البتة إلاّ بتحقق الصلاح الذاتي وتمكنه .
يقول الله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) ( التوبة : 71 ) .
( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) ( طه : 123 ) .
( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) ( الحج :40ـ 41 ) .
( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) ( التحريم : 6 )
في تلك الآيات وغيرها يمتزج الصالح بالمصلح ليشكل كنه المسلم الذي به تقوم الأمة المسلمة ، التي لا تستقيم حركة الحياة بغير قيادتها وريادتها .
وفي السنة أحاديث كثيرة ، يمتزج فيها الصلاح بالإصلاح :
(( عن درة بنت أبي لهب ، قالت : قام رجلُُ إلى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو على المنبر فقال : يا رسول الله ! أيَّ الإسلام خيرٌُ؟
فقال : صلى الله عليه وسلم : (( خير الناس أقرؤهم وأتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم )) (1) . امتزج الصلاح الذَّاتي ( أقرؤه وأتقاهم ) بالإصلاح الجمعي ( آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ،وأوصلهم للرحم ) ، فليس ( الإقراء ) حسن التلاوة والحفظ فحسب ، بل هو إلى ذلك أيضاً : حسن فقه ما يقرأ ، وحسن تطبيقه وطاعة ما به أمر وعنه نهي .
فالأمة المسلمة لا يكون المرء فيها صالحاً في نفسه ، منصرفاً عن غيره، مشتغلاً بحاله ، بل هو صالح في نفسه ، ومصلح لما حوله ثانياً : إنساناً وكوناً .
والحق عز وجل جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بصلاحها وإصلاحها معاً : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ( آل عمران : 110 ) .
فهي أمة أخرجت للناس ، أي لما فيه صالحهم ، وقد جعل قوله : ( تأمرون بالمعروف 000 إلخ )) شرط هذه الخيرية، وبيان كونها أخرجت للناس ولمصلحتهم . وقد فقه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ذلك فقها بالغاً ، فتحققت بهم فقها وسلوكاً الأمة المسلمة ، كما يحبها الله تعالى : (( عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ قال : لو شاء الله لقال ( أنتم خير أمة ) فكنا كلنا ولكن قال (كنتم) فهي خاصة لأصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن صنع صنيعهم (*))) قوله ( من صنع صنيعهم ) : بيان أن من تحقق فيه كما تحقق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاح والإصلاح في القرون التالية إلى يوم القيامة ، فهو منهم .
وقد فسرها (( أبو هريرة )) أيضاً تفسيراً كاشفاً عن حقيقة هذه السِّمة الرافعة للأمة من طور ( الإسلامية ) ، إلى أفق ( المسلمة ) :
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )) قال : خير الناس للناس : تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم ، حتى يدخلوا في الإسلام )) (2).
ليس في هذا دعوة إلى إكراه الناس على الإسلام ، وقسرهم عليه ، فإن سيدنا (( أبا هريرة )) أفقه وأحكم من أن يفسرها تفسيراً يصطدم مع قول الله تعالى :
( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( البقرة : 256) .
ولكنه فسرها تفسير أهل الحكمة والبلاغة العالية : إنه يريد ، إنكم تكونون خير الناس للناس ، إذا ما دعوتموهم إلى الإسلام بالحكمة والقدوة والأسوة والسلوك الملتزم هدي الله تعالى في كل حال ، وبالحم والأناة والصبر والمصابرة فتأسرونهم وتأخذون بمجامع قلوبهم وعقولهم فقهاً وسلوكاً ، فينقادون لكم وللدخول في الإسلام إعجاباً واقتناعاً ، كانقياد الأسير المغلول في السلاسل ، فهو أسر دعوة وقدوة وأسوة ، لا أسر أغلال وأصفاد ، فسيدنا (( أبو هريرة )) عليم بأن قسر امرئ على عقيدة ما ، لا يكون خيراً له ، ولو أنه أراد ظاهر عبارته لكان صدرها متناقضاً مع عجزها ، كما لا يخفى ، وأبو هريرة ، أحكم من أن يختلط عليه ما يقول .
ففي الآية بيان حقيقة الأمة المسلمة ، وقوامها : فعل الخير والدعوة إليه والإعانة عليه ، وترك الشرِّ والنهي عنه ، حتى تستقيم حركة الحياة ، فإن بذلك بقاء الحياة وصلاحها ، ولذلك جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحياة في هذه الأرض كمثل الحياة في سفينة تمخر عباب البحر ، لا نجاة لها ، ولمن فيها ، إلا بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والأخذ على أيدي المفسدين .
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها ، إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذِ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادُوا هلكُوا جميعاً ، وإن يأخذوا على أيديهم ، نجوا ونجوا جميعاً )) (3) .
الصورة التي يقدمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لواقع الحياة على هذه الأرض ، وعلائق الناس فيها ، ببعضهم ، ومسؤوليتهم في الحفاظ على بقائها وصلاحها صورة منتزعة من واقع مشاهد ، ، لا يتأتى لأحد أن يجادل ، أو يتوقف فيه البتة ، فلن يكون منه إلاّ التسليم بما ينتهي إليه التصوير والمقارنة والموازنة ، من هدي يأخذ بأيدي الناس إلى التي هي أهدى وأقوم ، اقتناعاً واطمئناناً ، فينقادون إليه انقياد ذي الأغلال ، إلى خير ، يرمى به إليه .
يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم ، القائم على حدود الله تعالى ، المراقب لها ، الواقف عند حماها في جميع شأنه ، والواقع فيها ، الراتع المنهمك المستمر في انتهاكها ، فلا يرعوى ، يشبه هذين الصنفين ـ وفي رواية لأحمد (4) يضيف إليهم المداهن في حدود الله . المصانع المنافق ، المزين لانتهاك الحرمات ، الساكت عن ذلك . الانتهاك ، تحت ستار الحرية ـ يشبه هذه الأصناف الثلاثة وعلائقهم ببعضهم على ظهر هذه الأرض ، بقوم شاءوا السفر في سفينة تمخر عباب البحر ، فكان بينهم استهام المنازل واقتسامها ، فكان لبعضهم أعلاها ، وكان لبعضهم أسفلها ، وهو أوعرها وشرها كما في رواية لأحمد (5) ـ وكذلك منازل الناس في الحياة على هذه الأرض ـ وكان الذين في أسفلها في حاجة إلى أن يستقوا ماءً ، فإذا استقوا مرّوا على من فوقهم ، النازلين اقتراعاً أعلى السفينة ، فكان ضرورة أن يَصُبّّ الأسفلون عند مرورهم على الأعلين ، فتأذى الأعلون ، وفي رواية للترمذي وأحمد (6) فقال الذين في أعلاها : لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا )) فثقل ذلك على الأسفلين : كما في رواية لأحمد (7) فقال الأسفلون : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا منه ولم نمرَّ على أصحابنا فنؤذيهم ، وفي رواية للبخاري (8) : (( فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : مالك ؟ فقال : تأذيتم بي ولابد لي من الماء )) وهنا برز صنيع المداهنين المصانعين ، الذين يبغون الفتنة في الأرض ، تحت شعار الحرية الشخصية ، فقال بعضهم كما في رواية للإمام أحمد (9) : (( إنما يخرق في نصيبه )) ، وقال الآخرون : لا ، فإن أخذوا على يدي ذلك الخارق ، ولم ينخدعوا بمقاله المداهن، الرافع شعار (( الحرية الشخصية )) نجا الجميع ، وإِن تركوه يخرق في نصيبه خرقاً هلكوا جميعاً.
هذا التفصيل لوقائع الأحداث في المشبه به ( أصحاب السفينة ) يشير إلى وقائع مثلها في حياة الناس ، في هذه الأرض .
والرسول صلى الله عليه وسلم ـ اختار موقع أحداث المشبه به سفينة ، وهو مكان دال على عظيم تعرضه للمخاطر الجسام ، التي لا تخفى ، ليهدي الناس إلى أنَّ هذه الأرض ، وما عليها ، لا تقل تعرضاَ للمخاطر الجسام عما تتعرض له السفينة في بحر لجيَّ ، قد تكون خطايا بعض ساكنيها سبباً لهلاك جميعهم حين لا يأخذون على أيديهم .
قال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون * واتقوا فتنة لا تُصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) (الأنفال : 24 ـ 25 ) .
هذه الصورة الكلية التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم ، ببيانه الحكيم تجمع بين واقعين متشابهين متماثلين : واقع ممتد عبر الحياة زماناً ومكانا ، هو واقع القائمين على حدود الله ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وواقع الواقعين فيها ، التاركين للمعروف ، المرتكبين للمنكر ، وواقع المداهنين المصانعين في الحق ، الساكتين على الشر ، يقابل ذلك الواقع واقع قريب إلى الأذهان والأبصار لا يكاد يغفل عنه ، أو يجهله أحد من الناس ، هو صورة المشبه به : صورة تجعل المتلقي كأنه يرى الأحداث تجري أمام عينيه : يرى سفينة في بحر لجيّ ، يقبل قوم على الإبحار فيها ، ويرى تقاسم القوم ، واستهامهم مواقع فيها ، فإذا قوم في أعلاها ، وقوم في أسفلها . هكذا تبدأ الأحداث ، دون أن يكون فيها ما يخرجها عن سنن العدالة ، وكذلك تبدو الحياة على الأرض ، ثم تأتي ضرورات الحياة وحاجاتها ، وأثرها في مجرياتها ، وعلائق الناس بعضهم ببعض وفقا لمناهجهم في التعامل مع تلك الضرورات والحاجات ومن تكون عندهم ، فالأعلون ممتعون بالاستقاء دونما حاجة إلى مرور على غيرهم ، فتتحقق ضروراتهم وحاجاتهم دونما اصطدام بالآخرين وكذلك طائفة من الناس في هذه الحياة .
والأسفلون يقتضي تحقيقهم ضرورات حياتهم ومصالحهم المرور على غيرهم والاصطدام بهم ، فإذا هم أمام أمرين عظيمين :
· ضرورة تحقيق ضروراتهم وحاجاتهم .
· ضرورة الاتصال بالآخرين والاحتكاك ببعض شؤونهم .
وتلك حال الجمهرة الكاثرة من الناس في هذه الحياة ، وهنا تكون الحكمة والحنكة ، وتقدير الأمور بمقاديرها ، وفقاً لما يقضي به حسن البصيرة والفراسة ، واستبصار العواقب من الأسفلين ، ومن شاكلهم ، وهنا يكون الإيثار والصبر الجميل ، والاحتساب والفضل من الأعلين ، ومن شاكلهم .
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هديه هذا يرسم لنا صورة لما هو الغالب على الطائفتين في الحياة : الأعلين والأسفلين ، فلا أيثار ولا احتساب ولا فضل من الأعلين ،ولا حكمة ولا حسن بصيرة من الأسفلين . فيصور لنا الأعلين ، وقد تأذوا من مرور الأسفلين عليهم ، والمرور حقهم وضرورة من ضروراتهم ، فكان هذا من الأعلين غير حميد .
إِنَّ اقتسام الأشياء عدالة وارتضاء ، لا ينفي أن يكون للآخرين بها بعض الحق ولو من وجه خفي ، فليس الذي يملكه هذا ، بِخال من حق الآخرين فيه ، فكل أمر الإنسان وشأنه وماله من الموجودات حساً ، ومعنى ، لغيره فيه بعض الحق : جسده وعقله وقلبه ، ماله وولده وعلمه ، تقواه وقدره وجاهه 000 إلخ .
وما يكون لأحد ، ولا ينبغي له أن يتبرم من أن يستعمل الآخرون ما لهم من حق ، فيما ملكت يده بفضل الله تعالى . وغير قليل من الناس تضيق نفوسهم حين يطلب الآخرون حقوقهم عندهم ، فترتسم آيات الضجر على الوجوه ، وقد تلفظ الأفواه كلماتٍ طاعنات ، وقد تمتد الأيدي ، بما يؤذي الطالبين حقاً لهم ، وما ذلك بالمنهج الأمثل في الإسلام .
الأمثل إسلاماً ، إظهار البشاشة والرضا ، حين يطلب الآخرون حقوقهم ، بل من حقهم على من تكون حقوقهم في أيديهم ، أن يبثوا في نفوسهم رضاهم باستخدام حقهم المتعلق بما ملكت أيديهم ، ويوحون إليهم ، أن أخذه منهم أحبُّ إليهم ، أو كمثل حبهم هم ، أن يأخذوا ما لهم عند غيرهم ، فقد هدى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله : (( لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه )) (10).
وفيما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من حال الأعلين ، تصوير لما يكون من بعض الأمة من دافعات إلى الخطايا ، وإن كثيراً مما يقترفه الجاهلون ، يحمل جمعُُ من غيرهم أوزار حملهم عليه واضطرارهم للتردي فيه ، بما يكون منهم ، من أساليب حاملة على ذلك . منها ما هو مقصود ، ومنها ما هو عن غفلة وجهالة.
من مسؤولية الأعلين ومن ضارعهم في الأمة ، أن يعتصموا من حمل غيرهم على التردي في الخطايا .
الغني حين يمتنع عن أداء زكاة ماله ، أو يتأخر في إخارجها ، يحمل بعض الفقراء على التردي في بعض الخطايا : سرقة ، أو استجداءاً أو احتيالاً ، فتُخرَقُ السفينة .
الزوج حين يحرم زوجه من بعض حقوقها الحسية والمعنوية ، يحملها على أن تسقط في مستنقع النشوز أو الخيانة ، فتُخرقُ السفينة .
الأب حين يحرم بنيه بعض حقوقهم ، يحملهم ، على التردي في هاوية العقوق ، فتُخرقُ السفينة .
المعلم حين يحرم تلاميذه بعض حقوقهم ، فلا يحسن إعداد نفسه علماً وصنعة ، ولا يخلص في تعليمهم ، يحمل بعضهم على أن يختلس العلم ، أو يسرقه عند اختباره ، فتُخَرقُ السفينة.
ولي الأمر الأعلى حيث يحرم شعبه حقه عليه ، في أن يحكمهم بما شرع خالقهم ، لا بما شرعه هو ، وبطانته ، يحملُ شعبه أو بعضه على أن يخرق السفينة خرقاً لا يكاد يصلح : يسقط حبه وهيبته والثقة فيه من نفوسهم ، وتمتلئ القلوب والعقول كرهاً وادعاء خيانة ، فيسهل على الدهماء الخروج عليه ، فيفسدون في الأرض ، فتُخرَقُ السفينة . والمسؤول عن ذلك هو ولي الأمر وبطانته ، إذ منع شعبه حقه 00 وإذا ما كان الدال على الخير كفاعله فإن الحامل لغيره على الشر كفاعله 00 وما خرجت أمة قط على إمام عدل ، فالعدل أساس الملك ، ولا يكون عدل البتة إذا لم يك وفقاً لما أنزل الله عز وجل .
إن الحكمة لتقتضي بأن ليس الصلاح أن لا تفعل الشر ، بل وألا تحمل الآخرين عليه ، بل وأن تعينهم على الاعتصام من التردي في خباله .
والرسول صلى الله عليه وسلم يصور لنا حال الأسفلين في السفينة بين شقي الرحى : حاجتهم إلى الماء ، وهو ضرورة الضرورات ، وتأذي الآخرين من المرور عليهم .
فإذا بالبصائر تغشى فلا تقدر الأمور قدرها ، ولا تتفرس في الواقعات عواقبها ، فينظرون في أخف الضررين فيحتملونه .
وقد كشف لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما هو غالب على الدهماء حينذاك: الافتتان بحق الملكية والحرية الشخصية ، التي يظن أنها المطلقة اليد ، تفعل فيما تملك ما تشاء ، فيرين على الألباب ، ما يطمس نورها ، فتهتف الضلالة فيهم : (( لو خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا )) .
كلمات تقال ، تحمل في ظواهرها طيب المقاصد ، وحسن الدوافع ( في نصيبنا ) ( لم نؤذ من فوقنا ) كلما فاتنة ، تلقي بالغشاوة على البصائر فلا تنفذ في عقبى الأشياء ، ولكن من تحت تلك الكلمات الطامة ، التي لا تبقي ولا تذر .
كلمات هي أصل الداء ، وجرثومة الفساد ، في كثير من الحياة . كلمات يغشى بريقها البصائر فلا تفقه كنهها ، ولا يفقه قائلوها فلسفة الامتلاك في الإسلام : ليس المرء بمطلق اليد فيما يملك بفضل الله تعالى . ثم يزعم أنه يفعلها لكيلا يؤذي غيره ، وهو في حقيقة فعله لا يؤذي فحسب ، بل هو يدمر ويمحق .
حين يستقيم تصور الإنسان حقائق الامتلاك في الإسلام ، تستقيم حركته وسلوكه فيما يملك ، فيعلم أن لحرية التصرف فيما ملكه الله تعالى ، حداً يقف عنده ، لا يتعداه ، لأن في تعديه ضرباً من الاعتداء على الآخرين .
عن سمرة بن جندب أنه كانت له عضدُُ من نخله في حائط رجلٍ من الأنصار ، قال ومع الرجل أهله . قال فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه ، فطلب إليه أن يبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم ، فذكر له ، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، قال : (( فهبه له ، ولك كذا وكذا )) أمراً رغبة فيه فأبى ، فقال : (( أنت مضارُُ )) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري : (( اذهب فاقلع نخله )) (11) .
فهدى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ حرية تصرف المرء فيما يملك غير مطلقة ، بل تحكمها ترك المضارة ، سواء ما كان منها جهالة ، وما كان منها عمداً .
إن حال أهل السفينة كما صوره الرسول صلى الله عليه وسلم من الجلاء والبديهة العقلية والمسلمة الفطرية ما يجعله بعيداً عن الجدال ، أو التوقف فيه ، وهذا ما يجعل إقامته مقام المشبه به حال الدنيا ومن فيها : علائق ومسؤولية ، حقاً وواجباً ، أمراً يستوجب التسليم المطلق ، بأن حكم العقل في حال الدنيا ، ومن فيها ، حكم السفينة وأهلها : علائق ومسؤولية ، وحقاً واجباً ، وأن التوقف في ذلك خطيئة عقلية تقذف بصاحبها خارج أفق الإنسانية ، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد أن أبان علاقة القائمين على حدود الله في الدنيا ، بالواقعين فيها ،وبالمداهنين ، قد أقام الحجة على كل ذي عقل ، أنَّ صلاح المرء في نفسه غير كاف ، بل فريضة عليه أن يكون صالحاً ، وأن يكون مصلحاً ما حوله ، قائماً بالاحتساب والرقابة الراشدة على ما حوله ، فلا يدع أيدي العابثين ممتدة بالشر .
فأقام الإنسانية أمام فريضة تغيير المنكر ، ومنع أهله منه ، والأخذ على أيديهم أيَّا كانت نياتهم ومقاصدهم ، قياماً لا تستطيع الفكاك منه ، والتخلي عنه ، أو التوقف فيه ؛ لأن في هذا التوقف والتخلي إخراجاً لها من أفق الإنسانية المسلمة وقذفا بها في حمأة الجاهلية وخبالها .
وهو صلى الله عليه وسلم باختياره عناصر المشبه به على هذا النحو ، أبلغ في هدي الأمة إلى أنَّ فريضة تغيير المنكر ضرورة حياة ، لا ينظر فيها إلى دوافع فعل المنكر ونوازعه ، فإن كثيراً من الماحقات قد يكون مبعثها حسن نوايا الجاهلين الحمقى .
إن حسن النية وحده ، لا يثمر خيراً ولا يهدي إليه ، إلاّ إذا كان هذا الحسن ثمرة علم وفقه ، وحكمه وبصيرة ، فأغلق بذلك البيان الباب ، في وجه من يتوانى عن تغيير المنكر الواقع اغتراراً بحسن نوايا فاعليه .
وأغلقه في وجه من يتوانى عن التغيير ، اغتراراً بالحرية الشخصية ، التي بدت في قول المداهنين (( إنما يخرق في نصيبه )) .
هذه المقابلة الإبليسية ( إنما يخرق في نصيبه ) إنما يرفعها لواءاً جمهرة من المداهنين المرجفين في المدينة ، يدلسون بهذه الأغلوطة الإبليسية ( الحرية الشخصية ) على الدهماء ، الذين يلهثون خلف كل ناعق ، بما يرفع عنهم تكاليف الصلاح والإصلاح ، ويبهرج لهم أغلوطاته ، بما تشتهيه نوازع الحيوانية فيهم . فما من مذهب فلسفي أو سياسي أو اجتماعي أو فني ، ، أراد أن يضرب في الأمة المسلمة فيوهي بنيانها ، فيصرف الناس عن الاستمساك بالهدي ، إِلا رفع شعاراً ( أغلوطة ) الحرية الشخصية : إنما يخرق في نصيبه.
هذه المذاهب وإن تغايرت وتناحرت فيما بينها ، منهجاً وحركة ، فالذي يوحد بينها الرغبة الجموح ، في صرف الناس عن التعاون على تحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، فلا تجد فتنة في الناس أسرع وأنكى من أغلوطة الحرية الشخصية.
جاء في ميثاق إِبليس : بروتوكولات حكماء صهيون :
(( كذلك كنا قديماً ، أول من صاح في الناس : (( الحرية والمساواة والإخاء )) ، كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة ، متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر ، وقد حرمت بترددها العالم من نجاحه ، وحرمت الفرد من حريته الشخصية الحقيقية ، التي كانت من قبل في حمى يحفظها من أن يخنقها السفلة )) (12) .
(( إن كلمة ( الحرية ) تزج بالمجتمع في نزاع مع كل القوى حتى قوى الطبيعة وقوة الله )) (13) .
وإذا ما كان النبي صلى الله علي وسلم قد هدى حين أخبر أنه ستكون فتنةُُ ، فسأله الصحابة: فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : (( كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم،
وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله 000 )) (14) ، وهو ما استند إليه وإلى غيره من آيات الله والحكمة ، أهل العلم والدعوة فتنادوا مخلصين : الإٍسلام هو الحل ، إذا ما كان ذلك فإن المرجفين في الأمة الساعين في الأرض فساداً يرفعون شعاراً (( الليبرالية هي الحل )) على الرغم من أن (( الليبرالية قد اتخذت الحرية المطلقة الأساس شبه المقدس لها )) (15) ، ومن الحرية اشتق لها اسمها الكاشف عن حقيقتها وكنهها .
ما (( الليبرالية )) في حقيقتها إلا رفض سلطة الدين في شؤون الحياة عقيدة وشريعة ومنهج حياة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، (16) وإن حاول بعض دهاقنتها ، خداع الدهماء ، في بيان حقيقتها ، بما لا ينفرهم منها ، فيبهرجونها في بادئ الأمر لهم ولا يقدمون لهم ، في مفتتح دعوتهم لها ، ما يمكن أن تنتبه له بعض عقول الدهماء فينصرفوا عنها .
يزعم دهاقين (( الليبرالية )) الخارجة من عباءة (( الماسونية )) ، أن (( الليبرالية )) دعوة إعلاء شأن الفرد وحريته في الاختيار ، والانتماء ، والملكية ، والقرار ، وحقه في المشاركة في عقد اجتماعي ، يرتضيه في ظل مجتمع ، يوفر كافة ضمانات الحرية بأشكالها الديمقراطية والتوازن الطبيعي في المجتمع )) (17)0
كلمات يغشون بها على عقول كثير من الدهماء ، فيتمكنون منهم ويسعون بهم إلى تقويض الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، ومن خلال تبني سياستهم القائمة على (( إطلاق الحرية الدينية كاملة ، وعادلة ، ومتساوية ، وبلا انحياز ، وأن الدولة مهمتها توفير الحرية لكل الأفراد ، وحماية مصالحهم المدنية ( كذا) وملكياتهم الخاصة ، وعلى السلطة عدم التدخل في الشؤون الدينية إِلاّ إِذا كانت بعض الأعمال التي يقوم بها أصحابها بدعوى الدين ، تعد محرمة أو مجرمة أصلاً لأسباب غير دينية )) (18) .
هكذا تكشف (( الليبرالية )) في دهاء يمزج السم بالعسل عن هدفها الأعظم ، فهي تؤمن وتدعو إلى أن ترفع الدولة يدها عن شؤون الدين الذي تعتنقه جمهرة الأمة ، فلا تنفق عليه من بيت المال شيئاً ، فيتساوى عندها الإسلام ، وسائر الديانات والمعتقدات ، ولا يكون للدولة معتقد ، تتبناه وتدعو إليه ، فالليبرالية تدعو إلى (( أن يبقى الدين علاقة بين الإنسان وربه )) (19) لا يتعدى مجاله ما يعرف عند الدهماء بالطقوس الدينية في مناخاتها الزمانية والمكانية ، لا يتجاوز بها المسلم مسجده أو منزله ، وإلا كان خرقاً في (( الليبرالية )) يجب على الدولة أن تأخذ على أيدي من تسول له نفسه أن يفعل . وهم بذلك لا يبيحون للسلطة الحاكمة أن تنفق على أمر من شؤون الدين من الخزانة العامة ، وبدعوى أن الدين من الشؤون الشخصية للأفراد ، ينفق عليه من يعنيه ذلك ، وليس من شؤون السلطة والدولة ، وفي الوقت نفسه يجعلون مسؤولية الدولة العناية بما يسمى فنوناً وثقافة عالمية على اختلاف أنواعها وأهدافها ، ويلزمون الدولة الإنفاق عليها من الخزانة العامة ،وما ذاك إلا أن في تلك الفنون تحقيقاً لغاياتهم من تقويض الوجود المتمكن للأمة المسلمة .
ودعاة (( الليبرالية )) يتسللون من دعوة عدم التدخل في الشؤون الدينية من قبل الدولة إنفاقاً ورعاية ، إلى وجوب تصديها بالردع ، إذا كانت بعض الأعمال التي يقوم بها أصحابها بدعوى الدين ، تعد محرمة ، أو مجرمة أصلاً ، لأسباب غير دينية ، فهم يوجبون ـ تحت هذا الستار ـ مصادرة كل ما يستشعرون فيه اقتراباً من هيمنتهم على سُدَّة الحكم ، بدعوى أن في هذا اعتداء على حرية الأفراد ، أو دعوى التطرف 00 إلى آخر تلك الأستار ، فكل ما لا يتناسق مع أهوائهم وأهدافهم ، يكون عندهم من الممارسات الدينية المحرمة ، أو المجرمة ، لأسباب غير دينية ، أمَّا ما كان محرماً لأسباب دينية جاءت بها الشريعة ، فلا دخل للسلطة فيها ، لأنها لن تمس أهدافها في تقويض الأمة المسلمة ، وهم يطلقون وصف التحريم والتجريم ، للممارسات الدينية ، لأسباب غير دينية ، ليتأتى لهم الحكم به على كل ما لا يروق لهم ، من شؤون الممارسات الدينية لدى المسلمين ، فتتحول كثير من الحقوق الدينية المشروعة للمسلمين مما جاء به الكتاب والسنة أعمالاً محرمة أو مجرمة لأسباب غير دينية تستوجب ((الليبرالية )) على السلطة الحاكمة التصدي لهذه الممارسات الدينية المشروعة أو المفروضة بالكتاب والسنة ، وبهذا تتعانق (( الليبرالية )) مع عدوها اللدود (( الماركسية )) التي تتستر الآن بعد انهيار الشيوعية العالمية تحت ستار (( اليسار )) ، فيدعوان إلى التصدي لكثير من الممارسات الدينية المشروعة بالكتاب والسنة (20) .
وهذا الذي ينطلق منه دعاة الحرية الشخصية المطلقة التي هي الأساس المقدس لليبرالية ، إنما هو عين ما جاء به ميثاق إبليس (( بروتوكولات صهيون )) : (( إنَّ كلمة الحرية التي يمكن أن تفسر بوجوه شتى سنجدها هكذا : (( الحرية حق عمل ما يسمح به القانون )) تعريف الكلمة هكذا ، سينفعنا على هذا الوجه : إذ سيترك لنا أن نقول : أين تكون الحرية ، وأين ينبغي أن لا تكون ، وذلك لسبب بسيط هو القانون ، لن يسمح إلا بما نرغب نحن فيه )) (21) .
ودعاة (( الليبرالية )) يتسللون من خلال الخداع بأغلوطة حرية الفرد في الاختيار والانتماء والملكية والقرار ، إلى حرية الطعن في الدين باعتبار أن الدين ليس حقًّا شخصيَّا لفرد معين ، يعد الاعتداء عليه ، والطعن فيه ، اعتداء على الآخرين ، وباعتبار أنَّ الدين موروث قابل للنظر فيه ، والنقد له ، وهم في محاولتهم خرق السفينة ، بل إغراقها يعملون في كل جانب ، وفي آن واحدٍ ، معتصمين في كل هذا بميثاق (( إبليس )) : (( برتوكولات حكماء صهيون : يجتهدون في الاستهزاء بالسنة وأهلها وقرنها بالخرافات وعدم صلاحيتها لتقدم الأمة ، ويضربون بها عرض الحائط لأنها لا توافق أهواءهم وأهدافهم ، فيخرقون في السفينة خرقاً ماحقاً لا يبقي و لا يذر (22) .
ومنهم من يجتهدون في التضليل فيعمد إلى القرآن يقول فيه مقالة مارق ، وهي شنشنة تعرفها الحياة الثقافية منذ (( طه حسين )) في كتاب (( في الشعر الجاهلي )) ومحمد أحمد خلف الله في (( الفن القصصي في القرآن )) وتغريد عنبر في (( دراسة أصوات المد في التجويد القرآني )) حتى نصر أبي زيد في كل ما قذف به حياتنا الثقافية ، يخرق به في سفينة الأمة خرقاً مبيراً .
يقول نصر أبو زيد : (( إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي ، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً ، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتفقاً عليها ( كذا !! ) فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعـكر ـ من ثم ـ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص )) (23) .
ويقول نصر أبو زيد : (( إن كلام الله قد تجسد في شكل ملموس في كلتا الديانتين : تجسد في المسيحية في مخلوق بشري هو المسيح ، وتجسد في الإسلام نصًّا لغويًّا في لغة بشرية هي اللغة العربية ، وفي كلتا الحالتين صار الإلهي بشريًّا أو تأنسن الإلهي ، واللغة العربية في الوحي الإسلامي تمثل الوسيط الذي تحقق فيه وبه التحول ، ويتمثل اللحم والدم ـ مريم ـ الوسيط الذي تحقق التحول فيه وبه في المسيحية )) .
ويقول : (( وإذا كان الفكر الديني الإسلامي ينكر على الفكر الديني المسيحي توهم طبيعة مزدوجة للسيد المسيح ، ويصر على طبيعته البشرية ، فإن الإصرار على الطبيعة المزدوجة للنص القرآني وللنصوص الدينية بشكل عامٍ ، يعد وقوعاً في نفس التوهم ،وينتج التوهم في الحالتين عن إهدار الحقائق التاريخية والموضوعية الملابسة للظاهرة )) (24) .
وهذا قليل من كثير يحاول به خرق السفينة وإغراقها ، وآيات الإضلال والإرجاف فيما نقلناه عنه ذات جلاء لا يتوقف معه أحد في إدراك فداحة ما يرمي إليه القائل وأمثاله .
وهو فوق هذا لا يرضى أن تكون علاقة الإنسان بالله تعالى علاقة العبد بسيده ، لأن هذا عنده يجعل الإنسان مغلولاً دائماً بمجموعة من الثوابت التي إذا فارقها حكم على نفسه بالخروج من الإنسانية ، وليست هذه الرؤية ـ كما يقول ـ معزولة تماماً عن مفهوم (( الحاكية )) في الخطاب الديني السلفي المعاصر حيث ينظر لعلاقة الله بالإنسان والعالم من منظور علاقة السيد بالعبد الذي لا يتوقع منه سوى إذعان ـ كما يقول ـ وهو لا يرضى أن يذعن لله ،ومن ثم يهتف في الناس حاثاً على الثورة على الله ، وعلى القرآن قائلاً : (( قد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر ، لا من سلطة النصوص وحدها ، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا . علينا أن نقوم بهذا الآن ، وفوراً قبل أن يجرفنا الطوفان )) (25) .
وهم يرفضون أن يحكم الوحي على الواقع وأن يحتكم إلى النص ، لأن الاحتكام إلى النصوص الدينية في المسائل الاجتماعية والسياسية لا يؤدي إلى ما يرونه خيراً لهم 00 يقول (( عبد العظيم أنيس )) : (( إن أي إصلاح ديني حقيقي في ظروف اليوم ، ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين ، والكرة الأرضية بسبب ثورة الاتصال ، تكاد أن تتحول إلى قرية كونية كبيرة ، وفي عصر ميثاق حقوق الإنسان العالمي ، أقول أي إصلاح ديني حقيقي لابد ـ كنقطة بدء أن يتخلى عن فكرة تحكيم النصوص الدينية في المسائل الاجتماعية والسياسية 000 )) (26) .
وذلك إيماناً بما أعلنه د/ حسن حنفي من أنه (( احتمينا بالنصوص ، فدخل اللصوص )) ، وهو الذي ينادي متسائلاً في سخرية :
(( لماذا يكون الله أفضل من الإنسان ؟ ولماذا نقول حقوق الإنسان ولا نقول حقوق الله ؟ لماذا يحكم الوحي على الواقع ؟ ولماذا لا يحكم الواقع على الوحي ؟)) (27).
هكذا يخرق في السفينة خرقاً ماحقاً .
ويأتي آخر يصدر ديوان شعر أسماه ( آية جيم ) يجعله خمسة فصول أو قصائد ، يسمى كل قصيدة أو فصلاً ( سورة ) ويصدر الديوان بقوله : (( أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم باسم الجيم ) ، وكل ما فيه لا يعدو أن يكون خبالاً ، كلا بل هو كيد شيطان رجيم ، لا يتأتى لأحد في رأسه ذرة عقل أن يزعم أن فيه من الشعر أو النثر أو قول عاقل شيئاً .
ومن هُذائه أن كل ما عداه قد غبن حرف (( الجيم )) ، فجاء منصفاً له من غبن الله ، ومن غبن العالمين ، يقول :
(( ثم كيف لم تفطنوا أيها الأدباء الفصحاء إلى أنه حتى في التراث الفصيح لم يضطهد حرف مثلما اضطهدت (( الجيم )) ، وإلا فدلوني أيها الشعراء النحارير على جيمية محترمة في الشعر العربي كله 000000
ولعل ما قيل عن الشعر يصدق بفصَّه ونصَّه على القرآن الكريم فلسَّر ما كرَّم القرآن حروفاً كثيرة ليس (( الجيم )) من بينها : كَّرم الصاد والقاف والنون وكذلك الألف واللام والراء ، ولكن أحداً لا يعرف على وجه اليقين لِمَ غَبَنَ ( كذا ) الجيم حقها ، وهي التي ترمز إلى ركن إسلامي ركين وهو الحج 000000 وإذا ما تركنا القرآن الكريم إلى ميدان المعاني العامة ألفينا الحقائق نفسها تقريباً )) (28) .
هكذا يغبن الله ـ جل جلاله ـ والعالمون حرف (( الجيم )) عند هذا المرجف في المدينة ، ويأتي هو لينصفه من الله الغابن ـ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً ـ ذلك أن هذا الجيم عنده (( ليست مجرد حرف ما في أبجدية ما ، بل هي أبجدية قائمة بذاتها . إنها سر الوجود وكماله الشخصي ، ذلك أن الوجود جيمي بطبعه ، فهيهات لشيءٍ أو شخصٍ بغير فضل الجيم أن يوجد ، فلتخضعوا إذن لقانون الجيم 00000 ذلك أن كل عبارة بل كل كلمة بل كل حرف لا يفلت مهما حاول من صبغة جيمية كامنة 0000 0
ولأن أطماعي كأجيامي لا حد لها ، فإنني لن أرضى بأقل من أن يعمد كل من كان اسمه خالياً من حرف (( الجيم )) إلى تجييم اسمه ليصبح (( عليّ )) جليًّا ، ويصبح (( كمال )) جمالاً ، أما من كان اسمه مزداناً بحرف الجيم 000فيعمد إلى أن يجعل بقية الحروف كلها أجياماً ، فيحدث لأول مرة في تاريخ اللغات أن تتوحد الأسماء بينما تتمايز المسميات )) (29) .
كذلك يكون الإبداع الشعري معولاً يخرق السفينة بل إعصاراً يحرق السفينة ومن فيها .
وأدهى من ذلك وأمّر ما ختم به ( تلموده ) وأسماه (( السورة الخامسة )) (( الجيم تجرح (( ، فقد أخرجها على نحو يستدعي إلى عقل القارئ نمط بناء السورة القرآنية ، يستفتحها قائلا : (( أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم باسم الجيم والجنة والجحيم ومجتمع النجوم أنكم اليوم ستفجأون 000000 ثم يقول : (( وما أدراك ما الجيم ، فإذا مزجنا الأجيام مزجاً ، ثم مخجنا جُرْجَهُنَّ مخجا ، ثم مججناهن مجًّا ،قل يا أيها المجرمون ، إنكم اليوم لفي وجوم )) 000000
ثم يختم سورته الخامسة ، ويختتم (( تلموده )) قائلاً : (( الجيم جل جلالها .
صدق الحرف الرجيم )) (30) .
لن يكون إجرام وافتراء على الله والقرآن كمثل ما قال في تلموده ،ففاق أستاذه (( عبد الوهاب البياتي )) حين قال في ديونه : (( كلمات لا تموت )) :
الله في مـدينتي يبـيـعـُه اليـهـودُ
الله في مــدينتي مـشـرَّدُُ طرِيدُُ
أراده الـغُـــزاةُ أن يـكـونَ
لهـم أجيـراً شـاعـراً قـوادا
يخـدع في قيـثاره المذهَّبِ العبـادِ
لـكنـه أُصـــيب بـالجـنون
لأنَّه أراد أن يصـون زنـابق الحقـول
من جــرادهـم أرادَ أن يكـــون))
كل ذلك وكثير غيره في مجالات عديدة ، ومؤسسات رسمية وغير رسمية ، يجاهد أصحابه ، في أن يخرق في سفينة الأمة خرقاً ، بل يجاهدون في أن يحرقوها حرقاً لا يبقي ولا يذر.
فكان فريضة على كل من يعلن أن في قلبه ذرة من إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وانتساباً إلى الإسلام وأهله أن يقوم إلى تغيير هذا المنكر ، وأن يأخذ على أيديهم من قبل أن يحرقوا أو أن يخرقوا : ولذلك قالها الرسول صلى الله عليه وسلم مكلفاً محذراً : (( فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا علي أيديهم نجوا ونجوا جمعياً )) .
ولن تجد شأناً من شؤون الأمة الآن ديناً ، ودنيا ، إلاّ وجدت فيه من يجاهد أن يخرق ، ومن يجاهد أن يحرق ، فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة كلها في وجه أولئك المفسدين في الأرض ، وحذرنا الدمار والهلاك الشامل للأمة ، إذا نحن توانينا أو تقاعسنا أو تخاذلنا أو شغلتنا أموالنا وأهلونا عن ردع أولئك المرجفين في الأمة الساعين فيها فساداً وهم اليوم كُثْر، لهم من ذي سلطان عون ، ولهم من الدهماء عجبٌُ .
(( عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : يا أيها الناسُ إِنكم تقرأون هذه الآية : ( يأيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إِذا اهتديتم ) . فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إِذا رأَوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده )) (31) .
إن قول الله تعالى : ( عليكم أنفسكم ) لا يستقيم فهمه على أنَّ المعنى فيه : الزموا صلاح أنفسكم ، ولا شأن لكم بفساد غيركم ، فإنهم لا يضرونكم في شيء فإِن فسادهم وبالُُ عليهم هم أنفسهم ، وأنتم منه ناجون .
لا يصح أن يكون هذا هو معنى قوله تعالى : ( عليكم أنفسكم ) لأن ذلك متناقض مع دلالات صريحة لآيات أخرى . ومن النصيحة لكتاب الله تعالى أن تفسر آياته بعضها في ضوء بعض وفي ضوء السنة . وهذه الآية من حقها أن تقرن بقول تعالى :
( يَأيُّها الذين آمنوا اتقـوا الله حق تقـاتـه ولاتَمُـوتُن إِلاَّ وأنتـُم مُسْلمُونَ * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) ( آل عمران : 102 ـ 103 ) .
قوله أولاً ( اتقوا الله حق تقاته ) يوجب أول ما يوجب صلاح الذات وكمالها . وقوله ثانياً : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) يوجب إصلاح الآخرين وإعانتهم على الكمال . ولذلك جاء قوله ( جميعاً ) وقوله ( لا تفرقوا ) فلا يكفي أن يكون الإنسان معتصماً بحبل الله وحده دون أن يكون اعتصامهم به جميعاً .
الصحيح في فقه قوله : ( عليكم أنفسكم ) أن لمعناه مجالين : مجال علاقة المسلم بأخيه المسلم ، ومجال علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم الأخرى .
أما المجال الأول فإن المعنى القويم : أنَّ عليكم أنفسكم بإصلاحها وتهذيبها وتثقيفها بثقافة الدعوة إلى الله فكراً وسلوكاً وتدريبها على حسن التعليم وحسن الصبر على الدعوة وابتلائها ، والاحتساب لوجه الله ، لتكمل خصال أنفسكم المسلمة ، فإذا ما تحقق ذلك فإنه لن يضركم من ضل عند دعوتكم له إلى الحق بالحسنى ، وإن كان قويَّا متسلطاً ، فإنكم ستكونون بإصلاح أنفسكم على النحو الذي مضى ، قد هذبتموها ، وحصنتموها ، ودربتموها فلا ينال منكم من ضل إذا اهتديتم إلى حسن إعدادها وتدريبها ، وقيامها ، بما عليها من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولاً وسلوكاً .
أمَّا المجال الآخر : مجال علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم ، فإنَّ المعنى إنكم يا أيها الذين آمنوا أمة واحدة ، منفصلون عمن سواكم متضامنون ، متكافلون فيما بينكم ، فعليكم أنفسكم . عليكم أنفسكم فزكوها ، وطهروها ، وعليكم جماعتكم فالتزموها ، وراعوها ، ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم 000000
إن هذه الآية تقرر مبادئ أساسية في طبيعة الأمة المسلمة ، وفي طبيعة علاقتها بالأمم الأخرى 000000
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله ، لا يضيرها من ضل إذا اهتديت ، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولاً ثم في الأرض جميعاً 000000
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ، ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ، ومقاومة الضلال ، ومحاربة الطغيان ، وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله ، واغتصاب سلطانه ، وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته ، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي ، وهذا المنكر قائم )) (32) .
وإذا لم يقم كل منا أفراداً وأمة بتغيير هذا المنكر ، فإن الدمار هو عقبى السوء ، وذلك بينها الصديق عليه الرضوان بعد أن أشار إلى ضلال فهم الناس الآية فقال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده )) .
فتغيير المنكر فريضة لأنه ضرورة حياة ، به يتحقق للأمة وجودها الآمن ، وإلا عمهم الله بعقاب من عنده : ( واتَّقوا فتنة لا تُصيبَنَّ الذين ظلمُوا منْكُم خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شديدُ العقابِ ) ( الأنفال : 25) .
وقد فسرها (( ابن عباس )) رضي الله عنهما بقوله : (( أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم ، فيعمهم الله بالعذاب )) (33) .
وقد جاءت أحاديث عدة تحذر سوء عقبى السكوت عن المنكر ، والإعراض عن تغييره ، أو الانشغال عن هذا التغيير .
(( عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فغرفت في وجهه أن قد حضر شيء ، فتوضأ وما كلم أحداً ، فلصقت بالحجرة ، أسمع ما يقول ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا أيها الناس ، إن الله يقول لكم مُرُوا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ،قبل أن تَدْعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم ، وتستنصروني فلا أنصركم )) (34) .
(( وعن عبد الله بن جرير عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون على أن يُغيروا عليه ، فلا يغيروا ، إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا )) (35) .
(( عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا ، اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك ، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض )) ، ثم قال : (( لُعِنَ الَّذين كفرُوا من بني إسرائيل على لِسَان داود وعيسى بن مَرْيَم َ ) إلى قوله ( فاسِقُون ) (36) ثم قال : كلا ، والله ، لتأمُرُنَّ بالمعروف ، ولتنهونَّ عن المنكر ،ولتأخُذُنَّ على يدي الظالم ، ولتأطرنَّه على الحق أطراً ، ولتقصرُنَّه على الحق قصراً )) .
وفي رواية زاد : (( أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعضٍ ثم ليلعَننّكم كما لعنهم )) (37) .
(( عن جابر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أوحى الله عز وجل ـ إلى جبريل ـ عليه السلام ـ أن أقلب مدينة كذا وكذا بأهلها ، فقال : يا رب إنَّ فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين .
قال : فقال : اقلبها عليه فإن وجهه لم يتمعَّر فيّ ساعةً قطُّ )) (38) .
وفي هذا دلالة باهرة على أن الاكتفاء بالصلاح الذاتي والاعتصام من مشاركة المفسدين إفسادهم ، لا يقي المرء من الهلاك إلا إذا جمع إليه تغيير المنكر الواقع ممن حوله ، بكل ما يمكن تغييره به فله النّجاءُ .
(( عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( يا معشر المهاجرين ، خمسُُ إذا ابتليتم بهن ـ وأعوذ بالله أن تدركوهن :
لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا ، بها إلاّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان ، إلاّ أُخذوا بالسنين ، وشدة المؤونة ، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم ، إلا مُنعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله ، إلا سلَّط الله عليهم عدوّاً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ، ويتخيروا مما أنزل الله ، إلاّ جعل الله بأسهم بينهم )) (39) .
هذه المهلكات الخمس ، هي فينا شاخصة ،تكاد تراها حيث وقع بصرك.
وإن من عهد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الأخذ على أيدي الظالمين والمفسدين في الأرض ، والمرجفين في المدينة ، فإن لم نفعل سلَّط الله علينا عدواً من غيرنا وقد فعل ، فأسامنا ذُلاَّ لم تشهد الأمة مثله منذ كانت.
إن تغيير المنكر ،والأخذ على يد الظالم ، وردع المفسدين ، هي الفريضة الموءودة في أمتنا.
ولن تستقيم حياة أمة بغير القيام بها قياماً ناصحاً ، فالتغيير ضرورة حياة ، وهو في الإسلام لا يبتغى به إلى عرض من أعراض الحياة الدنيا.
إن غاية تغيير المنكر ، تحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، لتأخذ بيد الحياة كلها إلى ما فيه خير الإنسان والوجود كله على هذه الأرض ، فيعم السلام والخير تحت راية الإسلام الذي ارتضاه الله ـ تعالى ـ للعالمين ديناً.
الفصل الثاني
إن وجود المنكر في المجتمع أمر طبيعي ، لا يخلو منه مجتمع في أي حقبة من حقب الحياة ، ولكن الذي ليس من الطبيعي أن يرى أبناء المجتمع المنكر ،فلا يسعون إلى تغييره (!) ، وفي التغيير بقاءُ الحياة على النحو الذي يحبه الله عز وعلا .
ولما كانت غاية تغيير المنكر عظيمة ، وكان فريضةً وضرورة حياة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين منهاج التغيير وآلياته ووسائله ، والضوابط والآداب ، حتى لا تضل الأمة في قيامها بتلك الفريضة ، فتسلك بها غير السبيل القويم ، أو تتخذ وسيلة غير التي تكون لها .
وبيان النبوة لوسائل (( تغيير المنكر )) وضوابطه ، يقيم الأمة على المحجة البيضاء ولا يبقي لها عذراً في التقاعس أو التكاسل عن القيام بهذه الفريضة ، فكان البيان شافياً شاملاً ، لا يكاد يفلت منه واحد من الأمة ، مهما كان موقعه في الحياة ، ومهما كانت قدرته واستطاعته ، مما يدل على أن منزلة (( تغيير المنكر )) ، من مقومات شخصية المسلم ، الذي به قيام الأمة المسلمة .
بيان النبوة وسائل التغيير
(( عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) ( رواه مسلم ) (1) .
الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه (( مسلم )) والأربعة وأحمد (2) قد بين السبل ، التي يسلكها المرء إلى التغيير ، فصدّوه بقوله : (( من رأى منكم منكراً فليغيره )) ثم بين آلات التغيير وسبله من بعد ذلك ، ناظماً لها نظماً أولياً ، فلا يتخلى المرء عن سبيل ، إلى الذي بعده ، إلاّ إذا أعذر نفسه ، وأيقن أن ليس في طوقه القيام بالتغيير من خلال السبيل الذي ترك .
ولبيان ما هدى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً مفصلاً يجلّي الدقائق ويحرر القول ويفصل المشتجرات حتى لا يبقى عذر لمعتذر ، سيكون بياننا على النحو التالي :
· بيـان المنكر : حقيـقتـه وشـروطه .
· بيـان التغـير: حقيـقتـه وشـروطه .
· بيـان المغَيَّـر : شــروطه وآدابه .
· بيـان ذي المـنكـر وشــــروطه .
· بيـان وسائل التغيير : شروطها وآدابها .
بيان المنكر الواجب تغييره : الحقيقة والشروط
كلمة ( منكر ) بضم الميم وسكون النون ، وفتح الكاف ( مُفْعَل ) مثل ( مُكرم ) اسم مفعول من ( أُنكرِ ) المبني لما لم يسم فاعله ، أي جُهِل ولم يعرف .
وقد اختلفت عبارة أهل العلم في بيان حقيقة المنكر ، فمنهم من عرَّفه بما هو أعلى صوره ، ومنهم من عرفه ببعض صوره ، فلم تكن التعاريف كاشفة عن حقيقة وماهية المنكر الواجب تغييره .
ذهب (( أبو العالية )) إلى أن المنكر عبادة الأوثان ن وهذا أعلى أنواع المنكر ، ولا يتصور أنه يقصر حقيقته عليه ، فإنه من العلم والحكمة بمكان عظيم .
ومساق الحديث من رواية (( أبي سعيد )) ، دالُُ على أن المنكر الذي قام رجل لتغييره ، ليس من عبادة الأوثان ، وإنما هو تقديم خطبة العيد على الصلاة (3) .
ولذلك قال (( الفخر الرازي )) : رأس المنكر الكفر . فجعله رأس المنكر ، وما عداه من الكبائر دونه وداخل في المنكر .
وقال الجصَّاص في (( أحكام القرآن )) : المنكر هو ما نهى الله عنه .
وقال الألوسي : المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع .
وقال علي القاري : المنكر ما أنكره الشرع وكرهه ولم يرض به .
وقال الراغب الأصفهاني : (( المنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه ، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول ، فتحكم بقبحه الشريعة )) .
والذي نذهب إليه أن (( المنكر )) الذي يجب على الأمة تغييره ، هو ما خالف الشرع كتاباً وسنة مخالفة قاطعة .
وسواء في هذا ، أن تكون المخالفة لما أمر به الشرع إيجاباً أو لما نهى عنه تحريماً ، وسواء كانت المخالفة تركاً بالكلية ، لما أمر به الشرع أو زيادة عليه بغير نص ، أو نقصاً منه بغير عذر ، أو تغييراً فيه ، أو تبديلاً في ذاته ، أو فيما يتعلق به زماناً أو مكاناً أو كيفية أو وسيلة . فكل مغايرة ذاتية أو عريضة فيما أمر به الشرع هي منكر ، ومثل ذلك تماماً المخالفة بالفعل لما نهى عنه ، مخالفة كلية أو غير كلية 000 إلخ .
وسواء في هذا ـ أيضاً ـ أن يكون الأمر أو النهي تصريحاً ، أو تلويحاً ، تفصيلاً أو إجمالاً .
تلك حقيقة المنكر الذي يجب على الأمة تغييره ، وهو يشترط فيه شروط أهمها : *أن يكون المنكر متفقاً على إنكاره (4) لثبوته بالكتاب أو السنة ، بحيث لا يكون إنكاره محل خلاف بين أهل العلم الموثوق بهم من ذوي الاختصاص والتقوى فإن كان محل اجتهاد واختلاف ، فليس مما يجب على الأمة تغييره ، بل يكون لمن ذهب إلى أنه منكر على الراجح عنده وأن يدعو إلى تركه من باب النصيحة إلى ما هو الأعلى والأليق بالمسلم .
وغير قليل من أحكام الشريعة المستمدة من الكتاب والسنة بغير طريق العبارة والمنطوق ، هو مناط اختلاف بين أهل العلم .
وكل ما أدى إلى منكر محقق هو نفسه منكر ، يجب تغييره ، فمن تيقن أن هذا العنب لا يزرع إلا ليصنع خمراً ، كانت زراعة العنب بهذا الغرض منكراً فوجب تغييره ، ومن تعلم الطب ليؤذي المسلمين ، أو يكشف عورات نسائهم ، كان تعلمه الطب منكراً ، يجب تغييره 000 إلخ
وتحقيق هذا الشرط من الأمور المهمة ، التي قد يتساهل فيها بعض الناس ، فإن تحقيقه على الوجه الصحيح ، لا يكون إلاّ ممن جمع بين العلم والحكمة ، إذ العلم يحقق له الوقوف على وجوه الدلالة في النصوص ، ووجوه اصطفاءات الأئمة ، والوقوف على دقائق العلم .
والحكمة تحقق له سعة الأفق ، ونفاذ البصيرة ، إلى عقبى الأحداث ، فلا يغتر برأي فطير ، عليه مسحة من زخرف القول ، أو وهج الحماسة ، واندفاع الشبيبة ، بل يكون له من الحكمة والروية ، ما يجعله يقف على حقائق الأشياء .
وإذا ما كان تحقيق الوقوف على ما اتفق عليه أئمة أهل العلم ، وما اختلفوا فيه من الكدى التي لا يكاد يجتازها إلاّ الخاصة فكيف بتحقيق الحكمة مع ذلك ؟ إنَّ غير قليل ممن استطاع التفوق في فقه الدين ، فقه تصور ، ليفتقر إلى كثير من الحكمة في توظيف هذا الفقه ، توظيفاً مثمراً متناغياً مع الفطرة الصافية ، وحركة الحياة المسلمة .
· أن يكون المنكر موجوداً متيقناً ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره )) فقوله ( رأى ) دال على وجوب العلم بوقوع المنكر ، علماً محققاً ، أو بإقدام صاحبه عليه لا محالة ، كأن يتيقن أنه يدبّر لقتل آخر أو لشرب خمر 000 إلخ . وأن الشواهد والقرائن قاطعة بعزمه على إيقاعه ،فإن من المنكر ما يكون تغييره بمنعه منه ، قبل وقوعه ، بأي سبيل من سبل المنع المشروعة ، وهو في هذا يكون أقرب إلى النهي عن المنكر ، منه إلى تغييره ، فإن النهي أعم من التغيير .
ويستوي في المنكر الواجب على الأمة تغييره ، أن يكون مما يتعلق بحق الله تعالى ، أو بحق أحد من عباده ، ويستوي ـ أيضاً ـ أن يكون ذلك المنكر قولاً أو فعلاً ، كبيراً أو صغيراً ، فكل ما أنكره الشرع يجب تغييره ، وإن اختلفت وسائل التغيير .
وقد جاء لفظ المنكر في الحديث نكرة ، ليكون عاماً ، فإنَّ النكرة في سياق الشرط تعم ، مثلما تعم ، في سياق النفي ـ كما هو معلوم عند أهل العلم .
ويستوي في هذا أن يكون هذا المنكر واقعاً من كبير أو من صغير ، ذكر أو أنثى ، فلو أن صغيراً أراد أن يقتل ، أو يشرب خمراً ، أو أن يحرق ماله ، فإنه يجب منعه ، وإن كان غير مكلف ، وكذلك المجنون ، لو أقدم على منكر ، منع منه ولا سيما منكراً يتعلق بحقوق الآخرين . فلا عبرة بمن يقع منه المنكر ، بل العبرة بالمنكر نفسه ، وتحقق أنه منكر لا رخصة لمن يفعله فيه . ولذا جاء المفعول الثاني للفعل ( رأى ) محذوفاً ، ليدل على العموم ، فكأنه قيل : من رأى منكم منكراً واقعاً من أحد من الناس .
ذلك ما يهدي إليه النصح لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدبراً وتأويلاً ، وليس صحيحاً ما ذهب إليه بعض الناظرين في الحديث من أنه مقيد بالنفس ، ومن له عليه ولاية ، فيكون التقدير من رأى منكم منكراً من نفسه ، أو أهله ، فيغيره ، فيكون التغيير محصوراً جوازه في منكر واقع من نفس المغيّر أو أهله ، الذين له عليهم ولاية ، كما يذهب إليه مؤلفو كتاب (( مواجهة الفكر المتطرف في الإسلام )) فذلك غير صحيح (5) ومن ورائه شر مستطير ، إذا أنه يفتح الباب لمن ليس لأحد عليهم ولاية ، كالسلطان الأعلى وبطانته ، أن يقترفوا من المنكر ما شاءوا ، فليس لأحد ـ بناء على اجتهاد أولئك المؤلفين ـ أن يغير منكرهم . وتلك التي لا يقول بها عاقل .
· أن يكون المنكر بواحاً ظاهراً ، لا يحتاج اليقين بعلمه إلى تفتيش وتجسس ، وسواء في هذا أن يكون ظهوره بذاته ، أو بما اقترن به ، من صوت ، أو لون ، أو رائحة 000 إلخ . فكل منكر دلت عليه آياته ولوازمه ، هو من المنكر الظاهر، الذي يجب تغييره .
أما إن كان المنكر خفيَّاً ، يقترف سراً ، فلا يستقيم التفتيش عنه .
(( عن أبي برزة الأسلمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ،ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من اتَّبع عوراتهم ، يتَّبع الله عورته ومن يتَّبع الله عورته يفضحه في بيته )) (6) .
يقول (( الماوردي )) : (( ليس للمحتسب ، أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظنَّ استسوار قوم بها ، لأمارة وآثار ظهرت ، فذلك ضربان :
أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة ، يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه ، أن رجلاً خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز له في مثل هذا الحال ، أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك 00000
الضرب الثاني : ما قصر عن هذه الرتبة ، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه ، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة ، من دارٍ ، أنكرها خارج الدار ، ولم يهجم عليها بالدخول ، لأن المنكر ظاهر فليس عليه أن يكشف عن الباطن )) (7).
وثمَّ منكرات أعظم أثراً في الأمة من غيرها كمنكر إشاعة الفتنة في الأمة لتقويض هيبة السلطان المسلم ، والخروج عليه ، وكمنكر استراق أسرار الدولة وأخبارها لنقلها للعدو ، وكمنكر التآمر على إفساد اقتصاد الأمة ، وثقافتها وعقيدتها ، وصحة أبنائها ، والتآمر على إشاعة الفاحشة في الأمة وتغييب عقول أبنائها ، وتزوير ، إرادة الأمة في اختيار ممثليها في المجالس النيابية ، وغيرها ، من المنكرات ، ذات الأثر الجسيم المبير .فمثل هذه المنكرات يجب اتخاذ السبيل إلى تغييرها ومنعها من قبل وقوعها ، وهو مما يبيت له بليلٍ ، ولا يكون مجاهرة .
فالتجسس والتفتيش منهي عنه في المنكرات ذات الآثار الفردية الشخصية التي لا يكاد يتعدى أثرها الفادح إلى كثير من الآخرين ، أما ما كان من المنكرات مبيراً ماحقاً عزة الأمة وقوتها ، فذلك يجب اتخاذ السبل إلى تغييرها ومنعها من قبل وقوعها ، فعموم قوله تعالى : (( ولا تجسسوا ) ( الحجرات : 12 ) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخواناً )) (8) إنما هو عموم نهي عن التجسس مخصص بما كان من المنكرات التي يكون أثرها فادحاً ومقوضاً لهيبة الأمة وعزتها ، وسلامتها ، بحيث يكون ذلك المنكر أعظم جرماً من التجسس .
تلك أهم شرائط المنكر الذي يجب على الأمة تغييره .
بيان التغيير : حقيقته وشروطه
التغيير يقال على وجهين : ( أحدهما ) لتغيير صورة الشيء دون ذاته ( والثاني ) لتبديله بغيره ، نحو غيرت غلامي ودابتي ، إذا أبدلت بهما غيرهما .
قاله الراغب في المفردات .
فالأصل في التغيير استبدال شيء مرغوب فيه ، بشيء مرغوب عنه ، فهو ليس تركاً وإزالة فحسب ، بل يتبعهما إقامة غيره مقامه ، فيكون التغيير أخصّ من الإزالة ، وأخصّ من النهي عن الشيء .
والحديث قد جاء بالأمر بتغيير المنكر ( فليغيره ) ، وهو أقرب إلى معنى الإزالة إن كان موجوداً قائماً ، وإلى المنع منه ، إن شارف على الوقوع ، وليس ظاهر الحديث آمراً بإزالة المنكر ، وإقامة معروف مقامه ، وإن كان يغلب تعاقب أحدهما الأخر ، فحيث غاب المنكر ، كان المعروف ، وحيث غاب المعروف ، كان المنكر .
وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال : ( فليغيره ) ، يهدي إلى أن تمام الفريضة وكمالها بإقامة معروف مقام ما يزال من المنكر ، حتى لا ندع للمنكر مجالاً للعود ، فهو لم يقل: من رأى منكم منكراً فليزله ،أو فليمنعه ، وإنما فليغيره.
وإذا نظرنا فيما تعلق بهذا الفعل من وسائله وآلاته ( بيده ، بلسانه ، بقلبه ) ألفينا دلالة التغيير ، تتجدد بتجدد ما تعلق بها فغير خفي ، أن التغيير باليد ليس هو التغيير باللسان ، فاللسان ليس بآلة إزالة ومنع ، بل هو سبب له ، وكذلك (القلب) ، ولكن ( اليد ) قد تكون آلة إزالة وتغيير حقيقي 00 فحقيقة تغيير المنكر ، تختلف باختلاف وسيلته ، وباختلاف المنكر الذي يقع عليه ذلك التغيير ، وباختلاف من يقوم بذلك التغيير .
وللتغيير شرائط وآداب نذكر منها :
· أن يكون التغيير إيماناً واحتساباً وابتغاءً لمرضاة الله عز وعلا ، في تحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة الفاعلة الرائدة ، وليس تغييراً لعصبية قومية ، أو وطنية ، أو لغوية ، أو حزبية، أو تحقيقاً لهوى في النفس ، أو موافقة لما تحب .
فهذه غايات قد يقع تغيير المنكر من أجلها ، فيكون هذا التغيير في نفسه منكراً يحتاج إلى تغيير .
أما التغيير الذي هو عبادة ، فإنما هو الخاص لوجه الله تعالى ، لا يبتغى به غيره ( وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفاء َ ) ( البينة : 5 ) ، والله سبحانه وتعالى ، قد بين لعباده غناهُ عن الشركاء في حديثه القدسي :
وحين يكون هذا التغيير احتساباً ، يُعينُ الله القائم لهذا التغيير ، على الاستعداد له ، استعداد قلبياً وعقلياً ونفسياً وجسدياً ومالياً ، لأن لهذا التغيير تبعات جساماً وابتلاءات عظاماً ، لو لم يكن القائم له محتسباً وجه الله تعالى ، لنكص على عقبيه أو تقاعس عن إنفاذ ما بدأ ، وهذا ما يهدي إليه قوله تعالى في بعض وجوه دلالته المتكاثرة : (( يأيُها الَّذينَ آمنوا عليكم أنفُسكم لا يضركم من ضلَّ إِذا اهتديتُم ) (المائدة : : 105) فإن من الاهتداء المشروط لانتفاء أضرار الضالين من يقوم بالتغيير أن يكون عملهم مخلصاً لله تعالى ن بل ذلك رأس الاهتداء .
· أن يكون التغيير موافقاً هدي الكتاب والسنة . ذلك أن كل عمل صالح أساسه أمران : إخلاص النية وموافقة الشرع .
(( ولهذا كان أئمة السلف ـ رحمهم الله ـ يجمعون هذين الأصلين ، كقول (( الفضيل بن عياض )) في قول تعالى : ( لِيَبْلُوكُم أيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلاً ) ( الملك : 2 ) قال : أخلصه ، وأصوبه . فقيل : يا أبا علي ، ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إِنَّ العمل إِذا كان صواباً ، ولم يكن خالصاً ، لم يقبل ،وإذا كان خالصاً ولم يكن صواباً ، لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً . والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .
وقد روى (( ابن شاهين )) واللالكائي ، عن سعيد بن جبير قال : لا يقبل قول وعمل إِلاّ بنية ، ولا يقبل قول وعمل ونّية إِلا بموافقة السنة )) (10) .
وموافقة الشرع ، لا تكون إِلاّ عن علم ومعرفة ، وإذا كنّا قد ذكرنا ضرورة العلم بحقيقة المنكر المراد تغييره ، فإن الشرط هنا معرفة كيفية التغيير ، وفقاً لهدي الشريعة ، وهذا يستوجب معرفة أسباب المنكر المراد تغييره معرفة كاشفة ، ومعرفة آثاره العاجلة والآجلة في الأمة .
ومعرفة ما يحيط بوجود المنكر ، وانتشاره في الأمة من ملابسات ، وما يعين على بقائه أو تجدده ، أو إغراء الناس بالانشغال به ، أو التلبس والتردي فيه ، أو السكوت على أهله ، أو إجلالهم ، أو الخوف من تغييره أو إنكاره .
ويستوجب معرفة ما يترتب على تغييره ، بأي سبيل من آثار إيجابية ، أو سلبية ، والموازنة بين هذه الآثار ، فيما يحسن اختيار المنهج ، والزمان ، والمكان والمقدار ، الذي هو أنفع للأمة ، عنده تغييره .
ويستوجب معرفة السبيل القويم ، إلى تغيير هذا المنكر ، تغييراً نافعاً ، فيختار ما هو أكثر نفعاً ، وأقل ضرراً على الأمة ، وما هو أقدر على القيام به ، وأصبر على إنفاذه .
ويستوجب معرفة منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر ، وفقاً لطبيعة هذا المنكر ومنزلته في الاعتداء على حق الله تعالى ، أو حق عباده ، ووفقاً لحال من يتلبس به ، وأسباب تلبسه ، وغايته من ذلك التلبس 000
إن القصور في معرفة شيء من ذلك ، تكون آثاره فادحة ، وإتقان معرفته تعين على حسن على القيام به .
وهذه المعرفة عمل جماعي ، يتركز على الصبر والمصابرة ، والتواصي بالحق والنصيحة ، وحسن العزيمة ، والرغبة الجموح في إتقان العمل .
إن الجهد الفردي جهد قاصر في هذا ، وهو إن لم يك عقيماً ، إِلاّ أن ثمرته غير نافعةٍ النفع المرجو من مثلها ، ولذلك دعا الله عز وجل الأمة إلى الاعتصام بحبله جميعاً ، ونهي عن التفرق في تحقيق هذا الاعتصام : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) ( آل عمران : 103 ) فهو ما أمر بأن يعتصم كل فرد منا بحبل الله على حياله ، دون اجتماع مع الآخرين . وقوله : ( ولا تفرقوا ) معناه : (ولا تعتصموا بحبله متفرقين ) ، فهو من عطف جملة على جملة ، وليس عطف فعل على فعل .
وقد دعا عباده إلى التعاون على البر والتقوى : (( وتعانوا على البرْ والتقوى ) ( المائدة : 2) ودعاهم إلى التواصي بالحق وبالصبر : ( والعصر * إن الإنسان لفي خُسر* إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصّبر )
( العصر 1 ـ 3 ) .
روي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : (( لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم )) ، وهو كما قال ، فإن الله أخبر فيها أن جميع الناس خاسرون ، إِلاّ من كان في نفسه مؤمناً صالحاً ، ومع غيره موصياً بالحق موصياً بالصبر )) (11) .
ولم يرض الله أن يكون المسلم صادقاً فحسب ، بل دعاه إلى أن يكون مع الصادقين ( يأيَّها الَّذين آمنوا اتَّقوا اللهَ وكُونُوا مع الصادقين ) ( التوبة : 119 ) .
هذه المعية المنبعثة من الصدق مع الله تعالى ، ومن اتَّقائه ، هي السبيل إلى القيام بتحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، وهي التي لا ترضي الطغاة والمفسدين في الأرض ، لأنّ فيها الوقاء من كيدهم ومكرهم .
· أن يسلك بالتغيير منهج التدرج والحكمة والحلم والرفق ، ليكون ذلك أنجح وأنجع(12).
وأول تلك المراحل تعريف صاحب المنكر بحكم فعله وآثاره وعواقبه في الدنيا والآخرة ، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .
إن أو ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم هو تعليم الناس الخير ، والسبيل إليه ، والشر والسبيل إلى الاعتصام منه ، وحث على ذلك التعلم وحمده . فإن كثيراً من العامة يقدمون على المنكر ، ويتردون فيه جهالة به وظنَّا أنه مما لا بأس به ، فإذا ما عُلَّم بالحكمة ، ووعظ بالحسنى ، كان أبعد عن المنكر وأنفر منه : ( وَمَنْ أحسن قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنَّني من المُسلمين ) ( فصلت : 33 ) . وقد أمر الله عز وعلا أن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة : ( ادعُ إلى سبيلِ ربَّك بالحكمة والموعظة الحسنة ) ( النحل : 125 ) .
ومن الدعوة إلى سبيله ، تغيير المنكر . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رؤوفاً رحيماً بأمته ، يشفق على الطائع والعاصي ، وهو القائل : (( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعلَّمكم 00 )) (13) ، وفي قصته مع الأعرابي الذي بال في مسجده القدوة والأسوة في حسن تعليم الجاهل ، حين يقع في منكر .
عن أنس بن مالك قال (( بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد ن فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَهْ مَهْ .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تُزْرِمُوه . دعوه )) ، فتركوه حتى بال . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه ، فقال له : (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ، ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عز وجل ـ والصلاة وقراءة القرآن )) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عندما زجروا الأعرابي : (( فإنما بعثتم مُيسَّرين ، ولم تُبعثوا مُعسَّرين )) (15) .
ولذلك لما تفقه الأعرابي ، بما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال واصفاً حلم النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه : (( فقام إلي ـ بأبي وأمي ـ فلم يؤنّب ولم يَسُب )) (16) .
ما اقترفه الأعرابي منكر لا شك فيه ، من وجوه كثيرة ، أعلاها حرمة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ،وحضرته ذلك الفعل .
وما اقترفه الأعرابي لا يحتاج العلم بأنه منكر ، إلى معرفة خاصة ، فالفطرة تأباه ، وبرغم من ذلك ، ما أنَّبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وما سبَّه ، بل وما غضب ، بل كان الرفيق الرحيم ، وقد علَّم أصحابه والأمة ، وهداها بهذا وبقوله : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه )) (17) .
وقد قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، حين غضبت من قولة اليهود له صلى الله عليه وسلم : السَّامُ عليكم : فقالت : وعليكم السَّامُ واللعنةُ ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مهلاً يا عائشة ، إن الله يحب الرفق في الأمر كلَّه )) ، فقلت : يا رسول الله ، أولم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قد قلت : وعليكم )) (18) .
وعن أبي أمامة قال :إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في الزنا . فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مَهْ ، مَهْ . فقال : (( ادنه )) ، فدنا منه قريباً ، قال : فجلس ، قال : (( أتحبه لأمك ؟ )) قال : لا ، والله ، جعلني الله فداءك .
قال : (( ولا الناس يحبونه لأمهاتهم )) .
قال : (( أتحبه لابنتك ؟ )) قال : لا ، والله ، يا رسول الله جعلني الله فداءك .
قال : (( ولا الناس يحبونه لبناتهم )) .
قال : (( أتحبه لأختك ؟ )) قال : لا ، والله ، جعلني الله فداءاك .
قال : (( ولا الناس يحبونه لأخواتهم )) .
قال : (( أفتحبه لعمتك ؟ )) قال : لا ، والله ، جعلني الله فداءاك .
قال : (( ولا الناس يحبونه لعماتهم )) .
قال : (( أفتحبه لخالتك ؟ )) قال : لا، والله ، جعلني الله فداءاك .
قال : (( ولا الناس يحبونه لخالاتهم )) .
قال : فوضع يده عليه ، وقال : (( اللهم اغفر ذنبه ، وطهَّر قلبه ، وحصَّن فرجه )) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلفت إلى شيء (19) .
أي منكر هذا الذي يستأذن فيه الفتى ؟ وأي منكر يكون ذلك الاستئذان من سيد الأنبياء ؟ إنه لمنكر جدَّ عظيم ، لا يملك أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم إزاءه ذرة من حلم ورفق ، ولكنه صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم ، الذي بلغ في موقفه هذا وكثير غيره ، حد الإعجاز لكل ما عداه من الخلق ، أن يبلغ ما بلغ في هذا الحلم والصبر الجميل .
وليس الرفق والحلم في تغيير المنكر ، بذاهب بصاحبه إلى المداهنة والمصانعة حين يعتدى بذلك عمداً على حق من حقوق الله تعالى ، أو حقوق عباده ، بل يكون ذلك حينذاك الحزم والحسم والغضبة لله رب العالمين .
(( عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم : أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أُسامة بن زيد ، حبُّ رسول الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد ، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال (( أتشفع في حدَّ من حدود الله ؟ )) فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله . فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال :
أما بعد ، فإنما أهلك الذين من قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ . وإني ـ والذي نفسي بيده ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )) ، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت ، فقطعت يدها .
قال يونس : قال ابن شهاب ، قال عروة : قالت عائشة : (( فحسنت توبتها بعد ، وتزوجت ، وكانت تأتيني بعد ذلك ، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متفق عليه ، والنص لمسلم (20) .
كذلك الرفق ، وكذلك الحزم في تغيير المنكر ، كلُُ في موضعه الذي هو به أليق وأكرم وأجدى وأنفع .
ومما يدخل في باب الرفق والحكمة في هذا ، ألا يكون ذلك مواجهة ومصارحة في ملأٍ من الناس ، فإنها حينذاك تشهير لا تذكير . يقول الإمام الشافعي : من وعظ أخاه سرَّاً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه (21) .
وقد جعل الله من عقوبة من عَيَّرَه أخاه بذنب ، أن يقع فيه : (( من عَيَّرَ أخاه بذنب لم يَمُتْ حتى يعمله )) (23) ، وذلك إذا لم يكن صاحب المنكر مجاهراً مفتخراً ، به متخذاً فعله رسالة حياته ، كمثل الماسونيين والعلمانيين والماركسيين وغيرهم من المرجفين المحاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان كذلك فقد وجب تغيير منكره ، ودفعه علانية ، وفضح أمره وأفاعيله وصنائعه السوء والإرجاف وإشاعة الفاحشة والسُّوأى ، فإن الله عز وعلا حَرَمَ المجاهرين عفوه :
(( عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كُلً أُمَّتي معافى إلا المجاهرين ، وإنَّ المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان ، عملت البارحة كذا ، وكذا ،وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه )) (24) .
فإذا ما كان هذا حال من جاهر على هذا النحو ، فكيف بحال من لا يفعلها بليل ، بل يفعلها جهاراً نهاراً ، ويتخذها فخاراً ومنهج حياة؟ أولئك أولى بالحرمان من عفو الله ، وأولى بفضح أمرهم للناس ، حتى يعرف الناس صنيعهم فيحذروا وينكروا .
فالحكمة في تغيير منكر مثل هؤلاء المجاهرين بالمنكر المفاخرين بفعله ،والدعوة إليه ، الغلظة في وجوههم ، والتصريح بأسمائهم وأوصافهم وأفعالهم ، وبمن يناصرهم ، أو يسكت عن باطلهم ، حتى يكشف حالهم ، فلا يخدع الناس بمكرهم ، وزائف فكرهم ، وزخرف قولهم ، وباطل مذهبهم .
وهم ـ خداعاً وزوراً ـ ينعقون في محافلهم العامة ، ومناشيرهم السيارة ، أنهم مسلمون موحدون ملتزمون بصحيح الإسلام ، وأنِّ من خالفهم إنما هو الذي يدعو الناس إلى عبادة الله بآراء خلقه ، لا بهدي كتابه ، كذلك يزعمون ، وينادون أن الإسلام قد عصم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، بلا إله إلا الله ، وأنهم يقولونها ، فلا تحل دماؤهم وأعراضهم .
ذلك ديدن المنافقين من الماسونيين والعلمانيين والماركسيين ، فذلك دعامة (( السَّلولية )) التي اتخذوها عقيدة من دون الإسلام . فإذا ما تخفَّى أولئك تحت ادعاء قول (( لا إله إلا الله )) فإن هذه ليست كلمات تقال فحسب ، وإلا لما قاتلت (( قريش )) النبي صلى الله عليه وسلم ، حين طالبهم بها، إنما هي منهاج حياة ورسالة وجود ، لها مقتضياتها وحقوقها ، وواجباتها . وفي حياة كل قائل لها آيات ظاهرة على تمكنها من قلبه واستقرارها فيه ، فيكون المسلم المعصوم بها دمه وماله وعرضه ، أو يكون في حياته ناقضاتُُ لمعنى (( لا إله إلا الله )) ومنهجها ورسالتها ، فتكون تلك الآيات القاطعات بأنه ليس الذي يعصم بها دمه وماله وعرضه .
كل قائل (( لا إله إلا الله )) عليه أن يعرض نفسه ومنهج حياته وحركته في الأرض على مقتضيات تمكن (( لا إله إلا الله )) من قلبه أو ناقضاتها .
هل يعصم قول : (( لا إله إلا الله )) من يطعن في كتاب الله ، ومن يدعو إلى التحرر من سلطة القرآن ، بل من سلطان الله ، ومن لا يرضيه أن تكون علاقته بالله علاقة عبد بسيده لأنه لا يحب الإذعان ؟ وهل يعصم قول : (( لا إله إلا الله)) من يستهزئون بالرسول والسنة والصحابة ، كمن يستهزئ من التيمم بالتراب عند نقض الوضوء لذي عذر ، ويستهزئ بالوضوء بغسل اليدين والوجه 000 إلخ لمن خرج منه ريح ، ويتساءل ما علاقة ذلك بوجهه ويديه ، ألا يكفي غسل محل خروج الريح ؟
وهل يعصم قول : (( لا إله إلا الله )) ، دم وعرض ومال من يزعم أنَّ بعض أحكام الشريعة الثابتة بالكتاب والسنة ، إنما هي رجعية وعادات بدوية لا تليق بالحياة المعاصرة ، وأنَّ القرآن والسنة لا يصلحان في القرن العشرين أن يحتكم إليهما في حياتنا السياسية والاجتماعية ؟
وهل يعصم قول : (( لا إله إلا الله )) ، دم وعرض ومال من يعلن صراحة أنَّه ضد الحكم بما أنزل الله ؟
أيتفق ادَّعاء الإسلام ، مع كل هذه الناقضات معنى (( لا إله إلا الله )) ، من قلوب أصحاب هذه الأقاويل والدعاوى ؟
ويتعلق أولئك المرجفون في المدينة بحديث سيدنا (( أسامة بن زيد )) الذي رواه الإمام (( مسلم )) الذي يقول فيه سيدنا (( أسامة )) :
(( بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبّحنا الحُرُقات~ من جهينة، فأدركت رجلاً : فقال : لا إله إلا الله ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟ )) .
قال : قلت يا رسول ، إنما قالها خوفاً من السلاح .
قال : (( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ )) .
وإذا كان أولئك لا يتعلقون بالسنة إلا حين يرون فيها ما ينفعهم في تنفيذ مخططهم (( السَّلُولي )) فإن تعلقهم بحديث (( أسامة )) غير نافع لهم .
وكل عاقل يقرأ الحديث قراءة مسلمة ، يجد أن حالهم لا يتفق مع حال الرجل الذي طعنه (( أسامة )) فقتله .
الرجل الذي قتله (( أسامة )) بعد قول (( لا أله إلا الله )) لم يظهر منه لسيدنا (( أسامة )) بعد قولها ما ينقضها ، من قول أو عمل ، فكان على سيدنا (( أسامة )) أن يعصم دمه بها ، حتى يقع منه ما ينقضها قولاً أو فعلاً ، ولذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ )) ، أي أقالها خوفاً من السلاح ، وما يزال على ما كان عليه قبلها ، أم قالها اعتقاداً جازماً ، فلو أنه بدا من الرجل ما يجعل أسامة يوقن أنه قالها خوفاً ، ما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قتله بعد قوله : (( لا إله إلا الله )) ، لأنها ستكون مقالة خادعة .
والماسونيون والماركسيون والعلمانيون ، وكل المرجفين في المدينة ، لا يكفون عن قول وفعل ما ينقض قولهم : (( لا إله إلا الله )) نقضاً لا يبقي ولا يذر ، فجميع أحوالهم التي يعيثون بها في الأرض فساداً ، تنادي صباح مساء أنهم إنما يقولون : (( لا إله إلا الله )) تقية وخديعة ، وأن هم في هذا كمثل الذين قال الله تعالى فيهم : ( وإذا لقوا الَّذِينَ آمنوا قالوا آمنَّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إِنَّا معكم إنما نحن مستهزءون ) ( البقرة : 14 ) .
( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) ( آل عمران : 72 ) .
فمثل أولئك ، الحكمة كل الحكمة في تغيير منكرهم ، كشف أقاويلهم وأفاعيلهم مقرونة بها أسماؤهم وأوصافهم ومواقعهم في الحياة الثقافية والقيادية ، وبيان أباطيلهم ، وما يرمون به إليه من إفساد في الأرض ، وحب لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ، حتى يعرف الناس حقيقتهم ، فلا يخدعون بمعسول قولهم وزخرفهم ، فإن لكثير منهم فصاحة لسان تسبي قلوب وعقول الدهماء ، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من أمثالهم .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أخوف ما أخاف على أُمتي كلُّ منافق عليمُ اللسان ) (26) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من تعلَّم صرف الكلام ليَسْبيَ قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) (27) .
وإن من ألزم ما يحمله أهل العلم وطلابه من فرائض ، الوقوف على حقيقة مذاهب العلمانيين والماسونيين ، والماركسيين ،ومن شايعهم ، والاجتهاد في فحصها وسبر أغوارها ودفائنها ، وخبئ مراميها ، ونقض ما فيها من دعاوى باطلة وأقاويل فاسقة .
إن حسن الظن بأمثالهم يردي في مهاويهم ، فالمؤمن كَيِّسُُ فَطِنٌُ ، لا يُلدَغ من جُحْرٍ مرتين .
وإن الحكمة في أمثالهم ، الاستماع إلى قول الشاعر :
والجَهْلُ إنْ تَلْقَهُ بالحلم ضقت به
ذَرْعاً وإنْ تلقَهُ بالجَهْل يَنْحَسِمِ
بيان المغِّير المنكر : شروطه وآدابه
إذا ما كان تغيير المنكر ، عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى ، فإنه يشترك مع بقية العبادات في بعض الفرائض :
· أن يكون القائم بالتغيير مكلفاً ، وأساس التكليف : العقل والبلوغ ، فمن جنَّ عقله ، أو أصابه فيه داء ، فقد أعفي من فريضة التغيير ، ما بقي الجنون أو الداء ، ومن لم يبلغ الحلم ، لا يجب عليه التغيير لمنكر رآه ، فإن كان مميزاً عارفاً بالمنكر قادراً على تغييره صحَّ له أن يغيره ، ولا يجوز منعه من ذلك
كما لا يجوز حمله على التغيير ، إلاّ على سبيل تدريبه على الطاعات من قبل وجوبها عليه ، على أن يكون ذلك تحت إمرة وليه .
· أن يكون مسلماً ، فإنَّ أي عبادة لا تقبل بغير إسلام ، ولا تفرض من قبل الدخول فيه ، فلا يتصور أن تفرض على غير المسلم ، أن يغير ما تنكره شريعة هو لا يؤمن بها ، وإن كان ذلك منكراً في شريعته ، التي يؤمن بها أيضاً ، فنحن غير مكلفين بحمل غير المسلمين على التمسك بشرائع عباداتهم ، التي يتفق بعضها مع بعض ما في الإسلام ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل يهود المدينة على ترك الربا ،وهو المحرم في توراة موسى عليه السلام ، مثلما هو محرم في الإسلام ، إلا إذا تحاكموا إلى المسلمين ، فيحملون على حكم الإسلام وحده ، لأنهم تحاكموا إليه طواعية .
فإذا أعان غير المسلم على تغيير المنكر ، أثيب على إعانته تلك ، بما يليق بها من نعم الدنيا ، ولا يصح منعه من أن يعين على ذلك إلاّ إذا خرق شروط التغيير وآدابه .
· ولا يشترط مع الإسلام العدالة ، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هو أهل له ، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات . ذلك ما عليه أهل العلم (28) فإن للفاسق بل عليه أن يغير المنكر ، إلاّ إذا كان لا يقيم الصلوات المكتوبات استهانة أو استهزاء أو إنكاراً لفرضيتها ، فإنه يكون بذلك غير مسلم البتة ، بل هو مرتد ، وهو أدنى منزلة من أهل الكتاب ، فإن استتيب وتاب والتزم ، وجبت إعانته وإكرامه وتأليف قلبه .
أما إن كان فاسقاً يؤدي الصلاة أو يتركها كسلاً لا استهانة ـ عند بعض أهل العلم ـ فإنه لا يُسقط عنه فريضة تغيير المنكر بسقوطه هو فيه ، فإن الفسق لا يرفع التكليف ، مثلما ترفعه الردّة ،وهذا الفاسق يكون على أحد أمرين :
- أن يكو مرتكباً منكراً غير الذي يراه من غيره .
- أن يكون مرتكباً منكراً من جنس ما يراه من غيره .
إن كان الأول ، فإن تغيير منكر غيره فرض عليه ، ما تحققت فيه بقية شرائط التغيير . فلا يتأثر بوقوعه هو في منكر آخر ، فالواقع في منكر الغيبة مثلاً ، عليه أن يغير منكر سرقة واقع من غيره . فإِننا لو اشترطنا أن يكون القائم بالتغيير خالياً من كل منكر ، فإنا نكاد لا نجد من يتحقق في ذلك ، ولا سيما في عصرنا والعصور القادمة .
يقول سعيد بن جبير : (( إن لم يأمر بمعروف ولم ينه عن المنكر ، إلاّ من لا يكون فيه شيء ، لم يأمر أحد بشيء )) فأعجب مالكاً ذلك من سعيد بن جبير )) (29) .
وإن كان الآخر أي المغيِّر ، واقعاً في منكر من جنس ما يراه من غيره ، فإن له حالين : أن يكون غيره عليماً بوقوعه فيه أو لا يكون .
إن كان عليماً بوقوعه فيه فالأولى تغيير منكر نفسه أولاً ، ولا سيما إذا ما كان التغيير باللسان ، حتى لا يكون السعي إلى التغيير حينئذٍ عقيماً أو عقباه أكثر ضرراً .
وإن كان غير عليم بوقوعه فيه ، لم يتوقف تغييره منكر غيره على تقديم تغييره منكر نفسه ، بل يفعلهما معاً أيَّاً كان سبيل التغيير وآلته ، فلا ينتظر الفراغ من تمام تغيير منكر نفسه ، ولا سيما إذا ما كان المغير ذا ولاية عامة أو خاصة على من يريد تغيير منكره .
فإن كان من العامة ومن حوله من يمكن أن يقوم بالتغيير دونه ، فعليه الاشتغال بتغيير منكر نفسه أولاً ، ويدع غيره يقوم بتغيير هذا المنكر متى كانوا قادرين وصالحين لتغييره .
(( يروى أن رجلاً جاء سيدنا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال : أبلغت ذلك ، قال : أرجو ، قال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله ، فافعل .
قال : وما هنَّ ؟
قال : قوله تعالى : ( أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالِبرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ، أحكمت هذه ؟ قال لا .
قال : فالحرف الثاني ؟ قال : قوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعلُونَ )، أحكمت هذه ؟ قال : لا ، فالحرف الثالث ؟
قال : قولُ العبد الصالح (( شعيب )) عليه السلام : ( وَمَا أُريدُ أنْ أُخَالفكُم إِلى ما أنْهَاكُمُ عَنه إِن أريدُ إِلاّ الإصلاح ) ، أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فابدأ بنفسك )) (30) .
في هذا الموقوف على (( ابن عباس )) إن صح سنداً ، دلالة على أنَّ المرء أن يكون أهلاً للقيام بفريضة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، حتى يكون قياماً مثمراً ، فإن لم يك أهلاً فعليه أن يبدأ بنفسه ، ويدع غيره لمن هو قادر علي هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيؤديهما أداء غير عقيم .
على أنه ينبغي أن نكون على وعي ، بأنَّ ما قاله ابن عباس لهذا الرجل إنما هو مخصوص بحال ما إذا كان مِنْ حول الرجل مَنْ هو أقدر على القيام بفريضة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فيترك ذلك لمن هو أقدر على نحو ما كان في زمان (( ابن عباس )) ، إذ كان جمهور الصحابة والتابعين كثير .
أما إن كان مثل ذلك الرجل في مجتمع ليس فيه من هو أقدر منه على ذلك أو كان فيه ، ولكن عجز عن الوفاء بكل الفريضة ، أو شغله المال والأهلون ، فلا ريب في أن مثل هذا الرجل ، وإن لم تتحقق فيه الآيات الثلاث المذكورات ، يجب عليه القيام بفريضة التغيير لمنكر غيره ، في الوقت الذي يسعى فيه جاهداً الىتحقيق هذه الآيات الثلاث على الوجه القويم .
ومما ينبغي وعيه هنا أن الرجل كان يرمي إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس إلى تغيير منكر يراه ، وفرقُُ غير خفي بين فريضة تغيير منكر وقع ورآه المرء ، وفريضة أمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإن لم يقع 00 فالتغيير ، بعض النهي ، وليس كله .
على أن قوله تعالى : ( أَتَأمُرُونَ النَّاسَ 000 الآية ) وقوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعلُونَ ) لا يؤخذ منه أن مرتكب المنكر لا يغير منكر غيره ، فقد جاء هذا القول في سياق ذم النهي عن المنكر وإتيانه ، أو الأمر بالبر ، وترك فعله في الوقت نفسه ، ولا يلزم من ذلك منع النهي عن المنكر ممن هذه حاله ، أو منع الأمر بالبر ممن هذه حاله ، بل هو دعوةِ إلى ترك المنكر ، لا ترك تغييره في غيره ، حتى يتركه هو 00 فهو قول سيق للنهي عن ارتكاب هذه الأفعال ، وإبراز شناعة إتيانها مع العلم بأنها منكر ،ومع دعوة الآخرين إلى تركها .
Komentar
Posting Komentar