قواعد مهمة
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
على ضوء الكتاب والسنة
د. حمود بن أحمد الرحيلي
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ملخص البحث
يتضمن بحث “ قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة ” أهمية الموضوع وخطة البحث ، ومنهجي في البحث ، وسبع قواعد ، وقد جاءت القواعد على النحو التالي :
القاعدة الأولى : الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
القاعدة الثانية : العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
القاعدة الثالثة : معرفة شروط إنكار المنكر . وهذه الشروط هي :
1 - التحقق من كونه منكراً .
2 - أن يكون المنكر موجوداً في الحال ، وله ثلاث حالات ، ولكل حالة ما يناسبها.
3 - أن يكون ظاهراً من غير تجسس مالم يكن مجاهراً .
4 - أن يكون الإنكار في الأمور التي لا خلاف فيها .
القاعدة الرابعة : معرفة إنكار المنكر . وجاءت كما يلي :
المرتبة الأولى : الإنكار باليد وشروطه .
المرتبة الثانية : الإنكار باللسان وضوابطه .
المرتبة الثالثة : الإنكار بالقلب .
القاعدة الخامسة : تقديم الأهم على المهم .
القاعدة السادس : اعتبار تحصيل المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد وتعطيلها أو تقليلها .
القاعدة السابعة : التثبت في الأمور وعدم العجلة .
ثم خاتمة اشتملت على أهم نتائج البحث ، بالإضافة إلى قائمة لأهم المصادر والمراجع العلمية ، وفهرس بالموضوعات
علماً أني لم أقف على من أفرد هذا البحث بهذا الاسم على حد علمي ، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
• • •
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
{ يا أَيُها الذَّينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللهَ حَقَ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُون}([i][1]) .
{ياأَيُها النَّاسُ اتَّقُوا ربَكُمُ الذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُوَنَ بِهِ وَالأرَحَامَ إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبَاً }([ii][2]).
{يَاأيُهَا الذَّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعَ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فُوْزَاً عَظِيْمَاً} ([iii][3]) .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد r ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
وبعد : فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام ، ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومعادهم متوقف على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله r ، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ، قال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِالله} ([iv][4]).
وقد أولى القرآن الكريم والسنة النبوية هذا الأمر أهمية بالغة ، ففيه تحقيق الولاية بين المؤمنين . قال تعالى {وَالمؤْمِنُونَ وَالمؤْمِنُاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ المنْكَرِ وَيُقِيْمُونَ الصَّلاةَ وُيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيْعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيْزٌحَكِيْم } ([v][5]) .
وهو من أسباب النصر على الأعداء ،والتمكين في الأرض . قال تعالى :{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيْزٌ . الذِيْنَ إِنْ مَّكَّنَّهُمْ في الأرَضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالمعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ المنْكَرِ ولِلهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}([vi][6]) .
وفيه الأمن من الهلاك ، والمحافظة على صلاح المجتمعات ، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال النبي r :(( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استَهَموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ))([vii][7]) .
وفيه دفع العذاب عن العباد . قال تعالى { لُعِنَ الذِيَنَ كَفَرُواْ مِنْ بَنِي إِسْرَائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُواْ يعتدون .كَانُواْ لا يَتَنَاهونَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}([viii][8]) .
وهو مطلب مهم لمن أراد النجاة لنفسه . قال تعالى : {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أُوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدَاً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}([ix][9]).
وفيه التوفيق للدعاء والاستجابة . فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي r قال : (( والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ، أو ليوشكنَّ اللهُ أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم ))([x][10]) .
والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفرات الذنوب والخطايا ، ففي الحديث الصحيح عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه ، قال سمعت رسول الله r يقول: (( فتنة الرجل في أهله ، وماله ، ونفسه ، وولده ، وجاره ، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ))([xi][11]) .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الظفر بعظيم الأجور، وتكثير الحسنات، قال تعالى :{ لا خَيْرَ في كَثِيْرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ([xii][12]) .
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحيا السنن وتموت البدع ، ويضعف أهل الباطل والأهواء ، وهو من أبرز صفات المؤمنين وسماتهم ، ومن أعظم الوسائل لقوتهم وتماسكهم، والغفلة عنه أو التهاون فيه، أو تركه ، يجر من المفاسد الكثيرة ، والأضرار الجسيمة . إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات الكثيرة المترتبة على الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر .
والنهي عن المنكر .
وإنه على الرغم من كثرة الكتابات التي تناولت موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن هناك جوانب – في نظري – تحتاج إلى المزيد من الدراسة والعناية ، وفي مقدمتها القواعد والضوابط التي تحكم طريقة القيام بهذا الواجب كما بينها العلماء على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة . لأن كثيراً ممن يريد القيام بهذا العمل لا يفقه أيسر الأسس التي يقوم عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتجد بعضاً من الدعاة يأمر وينهى بغير علم ، ويفتي بدون دليل ، وبعضاً منهم يدعو إلى الفضائل والأخلاق ، وهو يرى الشرك متأصلاً في أفعال الناس وأقوالهم ، فلا يحرك لذلك ساكناً ، ولا يصحح عقيدتهم ، مع أن البدء بإصلاح عقائد الناس هو الأولى والأهم .
وبعضاً من الدعاة يريد تغيير المنكر بيده وهو ليس أهلاً لذلك . وبعضاً لا يتثبت في الأمور ، أو يكون قليل الصبر والتحمل ، فيستعجل النتائج .
فهؤلاء وأمثالهم –ممن خالف نهج النبي r في دعوته وفي أمره ونهيه – يسيئون إلى الإسلام ، وإلى الدعوة ، وإلى الناس ، وإلى أنفسهم أيضاً . وبذلك يكون فسادهم أكثر من إصلاحهم .
لذا فقد رغبت في تناول هذا الموضوع تحت مسمى (( قَوَاعِدُ مُهِمَّةٍ فَي الأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهِيْ عَنِ المُنْكَرِ عَلى ضَوءِ الكِتَابِ والسُّنَةِ )) ، وإن كنت قصير الباع ، قليل البضاعة في هذا الشأن، وإنما قصدت المشاركة ،ولفت انتباه الدعاة إلى الله إلى العناية بهذا الأمر ، والاهتمام به .
خطة البحث :
وقد اشتمل البحث على مقدمة وسبع قواعد وخاتمة .
اشتملت المقدمة على أهمية الموضوع والخطة ومنهجي في البحث .
وجاءت القواعد على النحو التالي :
القاعدة الأولى: الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
القاعدة الثانية : العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
القاعدة الثالثة : معرفة شروط إنكار المنكر .
القاعدة الرابعة : معرفة مراتب إنكار المنكر .
القاعدة الخامسة : تقديم الأهم على المهم .
القاعدة السادسة : اعتبار المصالح ودرء المفاسد .
القاعدة السابعة : التثبت في الأمور وعدم العجلة .
وأما الخاتمة فقد أوجزت فيها أهم نتائج البحث .
منهجي في البحث :
هذا وقد عزوت الآيات الكريمة إلى السور مع ترقيمها ، كما خرجت الأحاديث النبوية التي ذكرتها في البحث ، وإذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما ، فإني قد اكتفي بتخريجه منهما أو من أحدهما لتلقي الأمة لهما بالقبول .
وشرحت معاني الكلمات الغريبة - في نظري - . كما عزوت ما تناولته في البحث إلى المصادر والمراجع التي رجعت إليها . وقد حرصت على سهولة العبارة ، ودقة التعبير ، مع الاختصار ، وعدم الإطالة ما أمكن.
ثم ألحقت بالبحث قائمة بأسماء المصادر والمراجع مرتبة حسب حروف الهجاء، مبيناً اسم المؤلف ، والطبعة وتاريخ النشر ما أمكن ، وقائمة أخرى بالموضوعات.
وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت فيما كتبت ، وأن يتجاوز عن النقص والتقصير ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلَّى اللهُ وسلَّم على نَبِيِّنا محمَّد وعلى آلهِ وصحْبِهِ أجمَعِين .
• • •
القاعدة الأولى: الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الميزان في كون الشيء معروفاً أو منكراً هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة رسوله الثابتة عنه r ، وما كان عليه السلف الصالح لهذه الأمة ، وليس المراد ما يتعارف عليه الناس أو يصطلحون عليه مما يخالف الشريعة الإسلامية .
فما جاء الأمر به في الكتاب والسنة ، أو الندب إليه والحث عليه ، أو الثناء على أهله، أو الإخبار بأنه مما يحبه الله تعالى ويرضاه ، ويكرم أهله بالثواب العاجل والآجل ، فهو من المعروف الذي يؤمر به . وما ورد النهي عنه في الكتاب والسنة ، والتحذير منه ، وبيان عظيم ضرره، وكبير خطره في الدنيا والآخرة ، أو جاء ذم أهله ووعيد فاعله بالسخط والعذاب والخزي والعار، ودخول النار ونحو ذلك فهو من المنكر الذي ينهى عنه([xiii][13]) .
قال ابن منظور : ( وقد تكرر ذكر المعروف في الحديث ، وهو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه الشرع )([xiv][14]) .
وذكر ابن حجر عن أبي جمرة([xvi][16]) : (يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع من أعمال البر ، سواء جرت به العادة أم لا )([xvii][17]) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم ، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله ، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، ويُؤمر بالمعروف الذي أمر الله به .. ورسوله ، ويُنهى عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى ، ويُؤمر ويُنهى ، إما بما يضاد ذلك ، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله ، وإذا اتخذ ذلك ديناً : كان مبتدعاً ضالاً باطلاً)([xviii][18]).
وقال ابن حجر الهيثمي : ( المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بـــواجب الشرع ، والنهي عن محرماته )([xix][19]) .
ويصف الإمام الشوكاني - رحمه الله - أفراد الأمة الإسلامية بقوله:
( إنهم يأمرون بما هو معروف في هذه الشريعة ، وينهون عما هو منكر ، فالدليل على كون ذلك الشيء معروفاً أو منكراً هو الكتاب والسنة ) ([xx][20]) .
ومن هذا يتبين لنا أن كون الشيء معروفاً أو منكراً ليس من شأن الآمر والناهي، وإنما يعود ذلك إلى ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله r ، على فهم السلف الصالح لهذه الأمة من اعتقاد أو قول أو فعل .
القاعدة الثانية : العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
من القواعد العامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أن يكون الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر عالماً بما يأمر به وبما ينهى عنه ،.. يعلم ما هو المنهي عنه شرعاً حتى ينهى عنه ، ويعلم ما هو المأمور به شرعاً حتى يأمر الناس به ، فإنه إن أمر ونهى بغير علم فإن ضرره يكون أكثر من نفعه ، لأنه قد يأمر بما ليس بمشروع ، وينهى عما كان مشروعاً وقد يحلل الحرام ويحرم الحلال وهو لا يدري ..([xxi][21])
ولأهمية العلم النافع أمر الله به ، وأوجبه قبل القول والعمل ، فقال تعالى :{ فَاْعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُم}([xxii][22]).
وقد بوب الإمام البخاري – رحمه الله – لهذه الآية بقوله : ( باب العلم قبل القول والعمل)([xxiii][23]) .
وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين : بالعلم ، ثم بالعمل ، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: {فَاْعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ} ، ثم أعقبه بالعمل في قوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العمل شرط في صحة القول والعمل ، فلا يعتبران إلا به ، فهو مقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصححة للعمل([xxiv][24]) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عند حديثه عن شروط الأمر والنهي :
( ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه .. وهذا ظاهر فإن العمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً ، واتباعاً للهوى وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما ، ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي)([xxv][25]) .
( ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه .. وهذا ظاهر فإن العمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً ، واتباعاً للهوى وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما ، ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي)([xxv][25]) .
وأضاف يقول : وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد ( لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به ، فقيها فيما ينهى عنه ، رفيقاً فيما يأمر به ، رفيقاً فيما ينهى عنه ، حليماً فيما يأمر به ، حليماً فيما ينهى عنه)([xxvi][26]) .
ويقـول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – مخاطباً الداعية إلى الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر : ( أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم ، لا تكن جاهلاً بما تدعو إليه {قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِي أَدْعُو إِلى اللهِ عَلَى بَصِيْرَةٍ} ([xxvii][27]).
فلا بد من العلم ، فالعلم فريضة ، فإياك أن تدعو على جهالة ، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم ، فالجاهل يهدم ولا يبني ويفسد ولا يصلح، وإياك أن تقول على الله بغير علم ، لا تدع إلى شىء إلا بعد العلم به ، والبصيرة بما قاله الله ورسوله والبصيرة هي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر فيما يدعو إليه ، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله ، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك ، سواء كان ذلك فعلاً أو تركاً ، يدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله ، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة )([xxviii][28]).
وأكد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين – حفظه الله – على أهمية العلم والبصيرة للداعية إلى الله الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فقال : ( وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله عز وجل أن يكون على علم مستمد من كتاب الله وسنة رسوله r الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل ، والدعوة على جهل ضررها أكبر من نفعها ، لأن الداعية قد نصب نفسه موجهاً ومرشداً ، فإذا كان جاهلاً، فإنه يكون ضالاً مضلاً ، والعياذ بالله .
ثم قال : تأمل أيها الداعية إلى لله قول الله تعالى { عَلَى بَصِيْرَةٍ} أي على بصيرة في ثلاثة أمور :
1-على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه ، لأنه قد يدعو إلى شىء يظنه واجباً وهو في شرع الله غير واجب ، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به ، وقد يدعو إلى ترك شىء يظنه محرماً وهو في دين الله غير محرم ،فيحرم على عباد الله ما أحل الله لهم .
2- على بصيرة من حالة المدعو ، ولهذا لما بعث النبي r معاذاً إلى اليمن قال له : (( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ..الحديث([xxix][29]) .
3- على بصيرة في كيفية الدعوة قــال تعالــى : {اُدْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةٍ وَالموعِظَةِ الحَسَنةٍ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ } ([xxx][30]) .
وإذا كان تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله r هو مدلول النصوص الشرعية ، فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات ، لأنك كيف تدعو إلى الله عز وجل وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه ، وإذا كنت لا تعرف شريعته فكيف يصح أن تكون داعية ؟
فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولاً ثم يدعو ثانياً ، قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول الرسول r (( بلغوا عني ولو آية))([xxxi][31])؟
فالجواب : لا ، لأن الرسول r يقول : (( بلغوا عني )) إذاً فلا بد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله r ، هذا ما نريده ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لا بد أن يبلغ شوطا بعيداً في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط ، ولا يتكلم بما لا يعلم([xxxii][32]) أ . هـ .
القاعدة الثالثة : معرفة شروط إنكار المنكر :
إنَّ لإنكار المنكر شروطاً يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعرفها ويراعيها عند إزالته للمنكر ، حتى لا يقع أثناء تغييره للمنكر في منكر مساوٍ أو أكبر منه ، وهذه الشروط هي([xxxiii][33]) :
1) التحقق من كونه منكراً :
والمنكر كل ما نهى عنه الشارع سواء كان محرما أو مكروهاً ، وكلمة المنكر في باب الحسبة([xxxiv][34]) تطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة ، وإن كان لا يعتبر معصية في حق فاعله إما لصغر سنه أو لعدم عقله ، ولهذا إذا زنا المجنون أو هم بفعل الزنا، وإذا شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكراً يستحق الإنكار ، وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرطي التكليف وهما البلوغ والعقل([xxxv][35]) .
ويندرج في المنكر جميع المنكرات سواء من صغائر الذنوب أم من كبائرها ، وسواء أكانت تتعلق بحق الله تعالى أم بحق خلقه . ولكن ما يجب معرفته أن الذي يملك الحكم على الشئ بأنه منكر أو غير منكر هو الشرع، فليس هناك مجال للأهواء أو العواطف، أو الأغراض الشخصية ، ودور العلماء في ذلك إنما هو استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية ، والأصول والقواعد المستوحاة منهما ، ومن ثم الحكم على هذا الأمر بأنه منكر أو غير منكر بالدليل القاطع والحجة البينة .
2) أن يكون المنكر موجوداً في الحال .
وله ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يتردد مراراً على أسواق النساء ، ويصوب النظر إلى واحدة بعينها ، أو كشابِ يقف كل يوم عند باب مدرسة بنات ويصوب النظر إليهن ، أو كالذي يتحدث بهاتف الشارع بصوت مرتفع مع امرأة ويحاول أن يرتبط معها بموعد ،أو يسأل بكثرة عن كيفية تصنيع الخمر وطريقة تركيبه. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الحالات الوعظ ، والنصح ، والإرشاد، والتخويف بالله سبحانه وتعالى من عذابه وبطشه .
الحالة الثانية : أن يكون متلبساً بالمنكر كمن هو جالس وأمامه كأس الخمر يشرب منه، أو كمن أدخل امرأة أجنبية إلى داره وأغلق الباب عليهما ونحو ذلك ، ففي هذه الحال يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار عليه ونهيه من ذلك طالما أنه قادر على إزالة المنكر ولم يخف على نفسه ضرراً أو أذى .
الحالة الثالثة : أن يكون فاعل المنكر قد فعله وانتهى منه ولم يبق إلا آثاره ، كمن شرب الخمر وبقيت آثاره عليه أو من عرف أنه ساكن أعزب وخرجت من عنده امرأة أجنبية عنه ، ونحو ذلك . ففي هذه الحال فليس هناك وقت للنهي أو التغيير ، وإنما هناك محل للعقاب والجزاء على فعل المعصية . وهذا الأمر ليس من شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر – المتطوع – وإنما هو من شأن ولي الأمر أو نائبه ، فيرفع أمره للحاكم ليصدر فيه الحكم الموافق للشرع([xxxvi][36]) .
وقد أشار الغزالى إلى هذه الحالات بقوله : ( المعصية لها ثلاثة أحوال : أحدها: أن تكون متصرمة، فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزير ، وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد ، الثانية : أن تكون المعصية راهنة ، وصاحبها مباشر لها ، كلبسه الحرير ، وإمساك العود والخمر ، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك للآحاد والرعية ، والثالثة : أن يكون المنكر متوقعاً ، كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه ، إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما التعنيف والضرب فلا يجوز .. إلا إذا كانت المعصية علمت منه بالعادة المستمرة ، وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار)([xxxvii][37]) .
ويقول العلامة ابن نجيم في بحث التعزير : ( قالوا لكل مسلم إقامته حال مباشرة المعصية ، وأما بعد الفراغ منها – أي المعصبة – فليس ذلك لغير الحاكم)([xxxviii][38]) .
3) أن يكون ظاهراً من غير تجسس ما لم يكن مجاهراً .
وذلك أن الإسلام ضمن للإنسان أن يعيش في المجتمع آمنا مطمئنا محترما موقرا طالما أنه سلك الطريق الصحيح المستقيم ، أما إذا حاد عن الطريق فإن الإسلام جعل لكل أمر معوج ما يناسبه من الاصلاح والتقويم ، ومن الأمور التي شرعها الإسلام لاحترام الإنسان وأمنه النهي عن التجسس عليه ، فلا يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسور الجدران أو يكسر الأبواب ليطلع على بيوت الناس ويتجسس عليهم ما لم يظهر شىء من ذلك ، إذ أن الله تعالى نهانا أن ندخل البيوت إلا بأذن من أصحابها ، والأصل في هذا قول الله تعالى : {يَاأَيُهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَرُونَ } ([xxxix][39]) .
بل إن الإسلام حرم النظر إلى داخل البيوت من أحد الثقوب أو الفتحات ، وأسقط الشارع الحكيم حد القصاص والدية عمن فعل ذلك ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال أبو القاسم – r - : (( لو أنَّ امرأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ))([xl][40]) .
وإذا كان الإسلام حرم الدخول إلى بيوت الناس والنظر إلى داخلها بغير إذن ، فإنه - أيضــاً – حرم التجسس يقول سبحانه : {يَاأَيُهَا الْذِّينَ آَمَنُواْ اْجْتَنِبُواْ كَثِيْرَاً مِنَ الْظَّنِ إِنَّ بَعْضَ الْظَّنِ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُواْ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} ([xli][41]) .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله r قال (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)) ([xlii][42]) .
وعن معاوية –رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله r يقول : (( إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ))([xliii][43]) .
أما إذا جاهر الشخص بمعصيته سواء كانت مرئية كأن يخرج عند بابه ويضع الفيديو إلى جواره وفيه أفلام خليعة .. أو كانت مسموعة كأن يضع بآلة التسجيل شريطا به غناء ماجن أو موسيقى وغير ذلك ، أو كانت مشمومة كأن تظهر رائحة الخمر والمسكر بحيث يشمها من هو خارج المنزل أو قريباً منه ، ويتكلم معه ، فإنه إذا فعل ذلك يكون قد أضاع الحق الذي أعطاه الإسلام له ، ويكون بذلك قد عرض نفسه للإهانة والردع([xliv][44]) .
فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله r حيث يقول : (( كل أمتي معافى إلا المجاهرين([xlv][45]) وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله ، فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه ))([xlvi][46]) .
قال ابن بطال : ( في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله –r –وبصالحي المؤمنــين ، وفيه ضرب من العناد لهم ..)([xlvii][47]) .
ومن خلال ما تقدم من أدلة يبدو لي – والله أعلم- أن الأدلة الواردة في النهي عن التجسس إنما هي خاصة بمن لم يجاهر بالمعصية ، أما من يعلن معصيته ويجاهر بها ، فإنه يشرع للمحتسب الاحتساب عليه ، وذلك لردعه وكف شره .
يؤيد ذلك ما رواه الإمام مالك بن أنس عن زيد بن أسلم –رضي الله عنه – قال : قال رسول الله –r – (( من أصاب من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله ، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ))([xlviii][48]).
4) أن يكون الإنكار في الأمور التي لا خلاف فيها .
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسع صدره لقبول الخلاف فيما يسوغ فيه الخلاف . وهناك مسائل فرعية ليست من الأصول يختلف فيها الناس كثيراً ، وتتباين أقوالهم فيها ، وهي في الحقيقة مما يجوز فيه الخلاف ، فمثل هذه المسائل لا يكفر من خالف فيها ، ولا يُنكر عليه ،لأنها مما وسع الله فيها على عباده ،قال تعالى { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِيَن . إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }([xlix][49])
يذكر الإمام الغزالى – رحمه الله- من شروط الحسبة ( أن يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد ، فكل ما هو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه)([l][50]) .
وروى أبو نعيم بسنده عن الإمام سفيان الثوري –رحمه الله- قوله : ( إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه)([li][51]) .
ويستثني القاضي أبو يعلى من ذلك إذا كان الخلاف ضعيفاً في مسألة من المسائل، وقد يؤدي عدم الإنكار إلى محظور متفق عليه ، إذ يقول :( ما ضُعف الخلاف فيه ، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد .. فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته)([lii][52]).
وقال النووي في الروضة : ( ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره ، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن كل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً )([liii][53]) .
وبهذا يتبين لنا أن الخلاف على نوعين : إما أن يكون سائغاً ، وإما أن يكون غير سائغ ، فالخلاف السائغ يمنع من الاحتساب على رأي بعض العلماء ، وأما الخلاف غير السائغ ، أو الشاذ ، كمن يخالف ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله r، أو ما أجمعت عليه الأمة، أو ما عُلم من الدين بالضرورة ، فهذا خلاف لا يُعتد به ولا يلتفت إليه لعدم قيامه على الدليل ، ويُنكر على من أتى به .
فالإنكار إنما يكون فيما يكون فيه الحق واضحاً ، والأدلة بينة من الكتاب والسنة والإجماع ، أما إذا خلت المسألة من ذلك ، فإنه ليس للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار في المسائل المختلف فيها ، كما أنه لا التفات إلى الخلاف الشاذ
وأن الواجب في الأمور الاجتهادية لزوم البيان والمناصحة ، من قبل من تبين له وجه الحق في شىء من تلك المسائل .
القاعدة الرابعة : معرفة مراتب إنكار المنكر :
من القواعد العامة التي تحكم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معرفة مراتب إنكار المنكر وضوابطها :
وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بقدر الاستطاعة، فإن استطاع المسلم تغيير المنكر باليد كان ذلك هو الواجب في حقه ، فإن كان عاجزاً عن التغيير باليد، وكان بمقدوره النهي باللسان كان ذلك هو الواجب عليه ، وإن كان عاجزاً عن التغيير باللسان وجب عليه الإنكار بالقلب وكراهية المنكر ، وهذا في مقدور كل إنسان .
والأصل في ذلك حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- مرفوعاً (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان))([liv][54]).
وعن عبد الله ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله r قال: (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .. ))الحديث([lv][55]) .
وفيما يلي مراتب إنكار المنكر :
v المرتبة الأولى : الإنكار باليد وشروطه :
وهي أقوى مراتب الإنكار وأعلاها ، وذلك كإراقة الخمر ، وكسر الأصنام المعبودة من دون الله ، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده ، وكإلزام الناس بالصلاة ، وبحكم الله الواجب اتباعه ونحو ذلك .
وذلك لمن كان له ولاية على مرتكب المنكر كالسلطان أو من ينيبه عنه كوالي الحسبة وموظفيه كل بحسب اختصاصه وكذا المسلم مع أهله وولده ، يلزمهم بأمر الله ، ويمنعهم مما حرم الله ، باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام يقوم بهذا حسب الوسع والطاقة([lvi][56]) .
وقد جاء في القرآن الكريم عن إبراهيم –عليه السلام -: {وَتَاللهِ لأكِيْدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلا كَبِيْرَاً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}([lvii][57]) فإبراهيم – عليه السلام- كسر الأصنام بيده .
وقال تعالى : {وَاْنظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الْذِّي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفَاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فَي الْيَمِّ نَسْفَاً} ([lviii][58]) ، فأخبر-سبحانه – عن كليمه موسى-عليه السلام – أنه أحرق العجل الذي عبد من دون الله ونسفه في اليم .
وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : (( دخل النبي صلى لله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول : {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوْقَاً} ([lix][59]) ([lx][60]) .
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله –r – (( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد))([lxi][61]) .
وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال : (( كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي ابن كعب من فضيخ زهو وتمر([lxii][62]) فجاءهم آت فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس فأهرقها فهرقتها ))([lxiii][63]).
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- عن النبي-صلى اله عليه وسلم- (( أنه نزع خاتم ذهب من يد رجل آخر ))([lxiv][64]).
وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري –رضي الله عنه- أنه كان مع النبي – r – في بعض أسفاره ، (( فأرسل رسولاً أن لا يبقينَّ في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قُطعت ))([lxv][65]) .
وعن عائشة –رضي الله عنها – (( أن النبي- r – لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه ))([lxvi][66]) .
وعنها –رضي الله عنها – أنها كانت قد اتخذت على سهوة([lxvii][67]) لها ستراً فيه تماثيل فهتكه([lxviii][68]) النبي- r – فاتخذت منه نمرقتين ، فكانتا في البيت يجلس عليهما ))([lxix][69]) .
فهذه بعض الأدلة ونظيرها كثير تدل على تغيير المنكر باليد ، بالقول والفعل من الرسول r وصحابته الكرام – رضوان الله عليهم- ومن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ولكن التغيير للمنكر باليد لا يصلح لكل أحد وفي كل منكر ، لأن ذلك يجر من المفاسد والاضرار الشىء الكثير ، وإنما يكون ذلك لولي الأمر أو من ينيبه ، مثل رجال الهيئات والحسبة، الذين نصبهم ولي الأمر للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكالرجل في بيته يغير على أولاده ، وعلى زوجته وعلى خدمه ، فهؤلاء يغيرون بأيديهم بالطريقة الحكيمة المشروعة([lxx][70]) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ( وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب ، ويقيم الحدود، لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد ، لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك ، فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر )([lxxi][71]) .
v المرتبة الثانية : الإنكار باللسان وضوابطه :
وذلك حينما لا يستطيع من رأى المنكر تغييره بيده لعدم سلطته على مرتكبه ، أو لما يترتب عليه من المفسدة المساوية أو الراجحة ، فإنه ينتقل إلى التغيير باللسان ، وذلك بتعريف الناس بالحكم الشرعي بأن هذا محرم ومنهي عنه ، فقد يرتكب المنكر لجهله به ، فيمكن تغيير المنكر عن طريق الوعظ ، والنصح ، والارشاد ، والترغيب ، والترهيب ، والتقريع ،والتعنيف ونحو ذلك من البيان .
وهذه المرتبة يلتقي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدعوة إلى الله ، فكلاهما بيان للحق وترغيب فيه ، وتنبيه على الباطل ، وتحذير منه، وتخويف وترهيب عنه، بما يناسب حال المخاطب ويقتضيه المقام([lxxii][72]) .
خطوات تغيير المنكر باللسان :
ولتغيير المنكر باللسان أربع خطوات :
· · الخطوة الأولى : التعريف باللين واللطف :
وذلك بأن يعرف مرتكب المنكر – إما بالإشارة أو التعريض حسب الموقف – بأن هذا العمل لا ينبغي أو حرام ، وأنت لستَ ممن يفعل ذلك بالقصد ، فأنت أرفع من ذلك، فإن الجاهل يقدم على الشىء لا يظنه منكراً ، فإذا عرف أنه منكر تركه وأقلع عنه،فيجب تعريفه باللطف والحكمة والرفق واللين ، حتى يقبل ولا ينفر . ويقال له مثلاً: إن الإنسان لا يولد عالماً ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى علمنا العلماء .. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء([lxxiii][73]) .
فعن عائشة –رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله – r -: (( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ))([lxxiv][74]) .
وعنها –رضي الله عنها- قالت : قال : رسول الله – r - : (( إنَّ الرفق لا يكون في شىء إلا زانه ، ولا ينزع من شىء إلا شانه ))([lxxv][75]) .
وعنها –رضي الله عنها- قالت : (( كان النبي- r –إذا بلغه عن الرجل الشـىء لم يقل : ما بال فلان يقول ؟ ولكن يقول : ما بال أقوام يقولون كذا وكذا))([lxxvi][76]).
قال أحمد بن حنبل : كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون : مهلاً رحمكم الله ([lxxvii][77]) .
وجاء جماعة من اليهود فدخلوا على النبي- r- فقالوا : السام عليك يا محمد -يعنون الموت- ، وليس مرادهـم السلام – فسمعتهم عائشة –رضي الله عنها – قالت: عليكم السام واللعنة . وفي لفظ آخر : ولعنكم الله ، وغضب عليكم . فقال رسول الله - r - : (( يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) قالت : ألم تسمع ما قالوا ؟ قال: (( ألم تسمعي ما قلت لهم: وعليكم ، وإنا نجاب عليهم ، ولا يجابون علينا ))([lxxviii][78]) .
فالنبي r رفق بهم وهم يهود ،رغبة في هدايتهم ، لعلهم ينقادون للحق، ويستجيبون لداعي الإيمان .
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق هو الذي يتحرى الرفق والعبارات المناسبة، والألفاظ الطيبة عندما يعظ وينصح الناس ، في المجلس ، أو في الطريق ، أو في أي مكان ، يدعوهم بالرفق والكلام الطيب ، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم، أو كابروا فيه ، فيجادلهم بالتي هي أحسن ، كما قال تعالى : { اُدْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةٍ وَالموعِظَةِ الحَسَنةٍ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ} ([lxxix][79]) .
وقال سبحانه : {وَلا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالْتَّي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الْذَّيْنَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ([lxxx][80]).
فهذا الأسلوب مع أهل الكتاب – وهم اليهود والنصارى وهم كفار – فما بالك مع المؤمنين ؟ فإذا كان المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق ، فإنه يكون بالتي هي أحسن ، لأن هذا هو أقرب إلى الخير ، وأدعى لتقبل النصيحة كما كان يفعل النبي r في دعوته .
فهذه طريقة السلف رحمهم الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة والعمل بما يدعون إليه ، وترك ما ينهون عنه، وهذه هي القدوة الصالحة.
· · الخطوة الثانية : النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى:
وهذه الخطوة تتعلق غالباً في مرتكب المنكر العارف بحكمه في الشرع بخلاف الخطوة الأولى ، فهي في الغالب تستعمل للجاهل في الحكم .
وأما العارف بالحكم فيستعمل معه أسلوب الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى ، ويذكر له بعض النصوص من القرآن والسنة المشتملة على الترهيب والوعيد ، كما يذكر له بعض أقوال السلف في ذلك، ويكون بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة .. وحتى لو كان عارفاً لهذه النصوص فلها تأثيرها ، لأن ذلك من قبل الذكرى ، والله تعالى يقول : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الْذِّكَرى تَنْفَعُ المؤمِنَيْنَ } ([lxxxi][81]) .
ويبين له ما أعده الله للطائعين من عباده ، ويذكره بالموت ، وأنه ليس لمجيئه وقت محدد، بل يأتي بغتة ، وربما يأتي إلى الإنسان وهو واقع في المعصية ، فتكون خاتمته سيئة والعياذ بالله .
يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ | وغرَّه طولُ الأمل |
الموتُ يأتي بغتةً | والقبرُ صندوقُ العملْ |