مناهج علوم الحديث
نظرات ووقفات
د.عواد الخلف
الأستاذ المساعد بكلية التربية والعلوم الأساسية
بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا - العين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله رب العالمين الذي خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلم الناس الخير، ومنقذ البشرية وهادي الإنسانية، منة رب البرية المبعوث رحمة للعالمين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً صالحاً متقبلاً.
أما بعد،
فسبحان الذي جعل السنة من الوحي الذي أنزله على خير خلقه، فقد قال تعالى تبارك اسمه ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة)) والحكمة هي السنة على الصحيح، وقال سبحانه ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)).
ولايخفى على شريف مسامعكم أن علم الحديث لب العلوم وعين معارفها، وقد خدم هذا العلم خدمة جلى جهابذة نشأوا على طلبه حتى اكتهلوا وسروا في تحصيله سرى الأهلة حتى اكتملوا،و جمعوا ذلك في مؤلفات يسرح الناظر في رياضها ويسعد قريحته من حياضها، ويكمن شرف علم الحديث في رواية ودراية كلام خير البشر الذي هو بدائع حكم وجوامع كلم يستضاء بنورها ويهتدى ببدورها، قال السيوطي:
علم الحديث ذو قوانين تحد يدرى بها أحوال متن وسند
فذانك الموضوع والمقصود أن يعرف المقبول والمردود[1]
والمؤلفات في علم المصطلح كثيرة طلعت في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب، إلا أن غالب ما يدرس في الجامعات والكليات مما كتبه المعاصرون، ولا ضير في ذلك فكم ترك المتقدم للمتأخر، ولكن الإشكال يكمن في هذا المنهج الذي يعتبر أحد محاور العملية التعليمية
(الطالب - الأستاذ- المنهج)، واسمحوا لي أن أبدي بعض ملاحظاتي حول غالب المناهج المعاصرة في تدريس علم مصطلح الحديث.
وإني إذ أقوم بذلك إنما أذاكر علماء أفاضل ومتخصصين أكارم، لعلنا بعد هذا النقاش نتعرف على بعض عيوب ما يدرس في كثير من الجامعات باسم علوم الحديث، كي نعرف أين الخلل لاستدراكه وعلاجه لا للتشهير به، والحمد لله رب العالمين.
أبرز الملاحظات على غالب المناهج المعاصرة:
بعد اطلاعي المحدود على عدد منها رأيت أن هذه الملاحظات ترجع إلى خمسة أمور رئيسة:
أولا: النظرية والتطبيق:
نلحظ في كثير من المناهج التي تدرس في الكليات - ولا أحب أن أسمي فليس هذا مقصودي ولو شئت لسميت - بعدها عن الجانب العملي والتطبيقي، وتركيزها على الجانب النظري.
بل إن القارئ أحيانا يستطرد في إنشاءٍ نظريّ دون أن يرى ربطا بينه وبين التصحيح والتضعيف كتطبيق عملي، فنرى أن الدارس يخرج بعد تلقيه لهذا المساق يحفظ تعريفات معينة دون أن يرى لها أثرا في واقع التطبيق، ونظير ذلك كمن يحفظ ألفية ابن مالك مثلاً ولايعرف إعراب »ضرب زيد عمراً«.
ثانياً: الخلط بين اصطلاحات المتقدمين والمتأخرين:
وهذا يدل -غالبا- على أن كاتب هذا المنهج تلقى علم الحديث بهذه الصورة النظرية بعيداً عن التطبيق العملي، وحتى لا يكون كلامي دعوى عارية عن الدليل سأشرع في التدليل والتمثيل؛ فانظر حفظك الله إلى غالب مناهج علم المصطلح المعاصرة وتناولها لمصطلح التدليس مثلا، سترى خلطا بينا، وخطأ فادحا، وغبنا فاحشا لذلك الطالب المسكين، ففي هذه المناهج ترى أن المؤلف يشترط التصريح بالسماع لكل من وصف بتدليس الإسناد دونما تمييز، بل وترى أثر مثل هذا الخطأ في كثير من تحقيقات المعاصرين وتآليفهم، فمنهم مثلا من يضعف حديثا بسبب عنعنة أبي قلابة عبدالله بن زيد الجرمي مع أنه في المرتبة الأولى ممن احتمل الأئمة عنعنتهم[2]، ومنهم من يضعف حديث من وُصف بالتدليس عند المتقدمين، لكنه عند الحافظ ابن حجر وغيره مرسل إرسالا خفيا، وذلك لأن المؤلف المعاصر لم يدرك الفرق بين اصطلاح هؤلاء وهؤلاء، فالمتقدمون وصفوا كل من روى عمن سمع منه أو عاصره ما لم يسمعه منه موهما السماع بالتدليس[3]، والحافظ ابن حجر جعل الأخيرة وهي الرواية عمن عاصره ولم يسمع منه موهما السماع إرسالا خفيا[4]، وذلك تمييزا بين الأنواع كما قال في تعريف أهل التقديس، لذا من وصف بالتدليس بسبب المعاصرة وعدم اللقي تقبل عنعنته إن ثبت اللقاء ولو مرة واحدة في غير هذا الحديث، ولا يحتاج أن يصرح بالسماع في كل حديث، فليس كل من وصف بالتدليس بحاجة إلى تصريح بالسماع في كل حديث يعنعن فيه كما هو ظاهر من صنيع الأئمة رحمهم الله تعالى.
بل منهم من يضعف حديثا فيه تدليس مروان بن معاوية لأنه مدلس، ومع كونه كذلك إلا أنه لا يحتاج إلى تصريح بالسماع لأنه مدلس تدليس شيوخ[5]، وغير ذلك من الأمثلة التي تدل على الخلط في مثل هذه المصطلحات.
ثالثاً: الخلط بين اصطلاحات المحدثين والأصوليين:
فترى عددا من المناهج عند تقسيمها الحديث باعتبار عدد طرقه تقسمه إلى متواتر وآحاد ومشهور، وهذا ليس بتقسيم المحدثين الذين جعلوا الحديث باعتبار عدد طرقه ينقسم إلى متواتر وآحاد، والآحاد ينقسم إلى عزيز ومشهور وغريب، فالمشهور قسم من أقسام الآحاد وليس قسيما له، وتقسيمه تقسيما ثلاثيا إلى متواتر ومشهور وآحاد ليس من اصطلاح المحدثين في شيء بل من اصطلاح بعض الأصوليين.
رابعاً: التناقض:
فأنت ترى أن الدارس يدرس في المنهج الذي بين يديه (المشهور) مثلا، فترى المؤلف في فصل من الفصول عند تقسيمه الحديث باعتبار عدد طرقه يجعل المشهور من جنس الصحيح مطلقا،ومما يجب العمل به، إلا أنه لا يكفر جاحده، وفي فصل آخر من الكتاب يجعل المشهور مشتركا بين الحسن والصحيح والضعيف، ولا شك أن هذا هو الصواب إلا أنه يناقض سابقه.
خامسا: عدم فهم اصطلاحات المحدثين:
ونتيجة لذلك ترى بين دفتي المناهج مصطلحا جديدا لا يصح نسبته إلى مصطلح الحديث لأنه ليس مما اتفق عليه أهل الفن فيما بينهم، من ذلك مثلا:
1- ترى في تعريف المجهول في عدد من هذه المناهج من روى عنه أقل من اثنين أو لم يرو عنه أحد، دون الإشارة إلى أنه وثق أو لم يوثق، بل يرى أن الجهالة ترتفع بمجرد رواية اثنين عنه فأكثر، والصواب أن جهالة العين ارتفعت لكن جهالة الحال لا ترتفع وإن روى عنه اثنان فأكثر إذا لم يوثق، نعم إن مصطلح المجهول كان يطلق عند المتقدمين بشكل أوسع منه عند المتأخرين كالحافظ ابن حجر، ولا شك أن الخلط بين منهج المتقدمين والمتأخرين يؤدي إلى خطأ في الحكم على الحديث لذا لا بد أن يبين للطالب إطلاقات مصطلح المجهول عند المتقدمين والمتأخرين، وأن يبين له أن من المتقدمين من يطلق مصطلح المجهول على راو ويقبل روايته، ولذلك ضوابط بينتها في بحث محكم قيد النشر - إن شاء الله تعالى - فالطالب يدرس المجهول ولا يفرق بين رأي ابن حبان وشيخه ابن خزيمة من جهة وماذهب إليه ابن الصلاح وأبو الحسن ابن القطان واختاره الحافظ من جهة أخرى، ولم يعرف حكم رواية مجهول الحال عند المتقدمين والمتأخرين لذا نرى أن الطالب يسير في مثل هذا المصطلح وغيره على غير هدى لأنه يخلط بين مناهج العلماء لاتفاق كلمة الاصطلاح ولم يعلم أن لهذا الاصطلاح إطلاقات عند هؤلاء وأولئك ينبغي أن تراعى.
2- بل إن بعضهم في مبحث الوحدان جعل كل من روى عنه راو واحد عنه فقط مجهول عين إذا لم يكن صحابيا، ولم يفرق بين من وثق وبين من لم يوثق، الأمر الذي يؤدي إلى تجهيل الثقات ممن قبل الأئمة حديثهم وقد يكون من المتقدمين من أطلق مصطلح مجهول على من هذه حاله لكنه يقبل حديثه وإنما عنى بذلك عدم الشهرة في طلب العلم وإلا كيف نفسر إخراج البخاري ومسلم لمن هذه حاله، فلا بد من مراعاة الفروق بين مناهج الأئمة عند التطبيق والتمثيل بل عند التصحيح والتضعيف،
وقد ألف الإمام مسلم في ذلك كتابا مستقلا سماه ((المنفردات والوحدان)) فلينظر.
3- الجرح بالتدليس، فغالب المعاصرين في مناهجهم المكتوبة التي كما سبق وأشرت أنها نظرية أكثر منها عملية، فتراهم يجرحون الراوي إذا عرف بالتدليس، مع أن هذا القول ينم عن عدم ممارسة لعلم الحديث فالتدليس نوع من أنواع المنقطع الخفي، وإنما ضعف حديث بعض المدلسين لاحتمال الانقطاع فإن صرح بالسماع - إذا كان ممن يحتاج إلى تصريح بالسماع - اندفع هذا الاحتمال وقبل حديثه، ولا يخفى على شريف مسامعكم أنه ليس كل من وصف بالتدليس بحاجة إلى تصريح بالسماع، فهذه المسألة لها ضوابط عدة تربو على الثلاثين جمعتها في كتابي روايات المدلسين في صحيح البخاري، وما أريد أن أشير إليه هنا أن التدليس طعن في المروي لا في الراوي إلا فيمن تعمد تدليس التسوية عند البعض، وأما التعميم بجعل كل مدلس مجروحا بتدليسه يجرنا إلى تجريح عدد كبير من الرواة لم يجرحهم غيرنا بل منهم من هو من رجال البخاري ومسلم، وهذا لم يقل به أحد لأن التدليس طعن في شرط الاتصال وبالتالي ليس طعنا في العدالة ولا الضبط فكيف نجرح الراوي أو نتهم عدالته أو ضبطه إذا فقد الحديث الشرط الأول من شروط الصحة وهو الاتصال.
4- المعلق: فترى في بعـض المناهج من يجـعله مشتركا بين الصحيح والحسن والضعيف مع كون المعلق نوعا من أنواع المنقطع، فبعضهم يخلط بين مصطلح المعلق وبين معلقات صحيح البخاري، التي هي مشتركة بين الأنواع الثلاثة بعد أن غلقها الحافظ في تغليق التعليق، بل منهم من يخلط حتى في معلقات صحيح البخاري عندما يتحدث عنها في مبحث المعلق فتراه يصحح كل حديث علقه البخاري بصيغة الجزم، والصواب أنه صحيح إلى من علقه عليه فقط وأما باقي السند فيحتمل الحسن والصحة والضعف.
Komentar
Posting Komentar